الحلقة 326: من أجل أجيالِ لم تولَد بعد
(الاثنين 23 أيار 2005)
شُكراً لأصدقاء اتّصلوا بي أو بالإذاعة أو التقيتُهم فأثنَوا على العشر الحلقات الماضية من “انتخابيات”. وشكراً على ملاحظاتهم، ولو انّ معظَمها تركَّز على كوني أصرُخُ في الوادي، ولا جوابَ مِمّن أُنادي.
فليعذرْني هؤلاء الأصدقاء الطيّبون. ولكن… مش صحيح. إذا كانوا يعنون بأن كلامي لم يصل إلى السياسيين والمسؤولين والمرشّحين، فهذا ليس هَمّي، لأنني، في كل ما أقول وأكتب، أُخاطب شعبنا لا المسؤولين. فأنا أؤمن بِما في شعبنا من وعيٍ وأصالة، وبِما يُمكن أن تفعلَ فيه الكلمة. ولستُ أدّعي أنني غيّرتُ أو ساهمتُ في تغيير وضعٍ أو واقعٍ أو حالة، ولا أدّعي أنّ التغيير يَحصل بين ليلةٍ وفجرها أو بين سنةٍ وتاليَتِها، كما لستُ أدّعي أنّ حلقاتيَ الأخيرةَ العشرَ عن الانتخابات النيابية غيّرَتْ قناعاتٍ أو رسّخَتْ قناعات.
لكنني واعٍ تَماماً بأنّ نقطةً تنْزل دائماً على صخر، تَحفر في هذا الصخر أُخدوداً عميقاً. وإنْ أنا نقطةٌ في أصوات بلادي، فلْتتكاثر النقاط، ولْتتعالَ الأصوات، حتى ينحفرَ الصخرُ ويتعمَّقَ الأُخدودُ نقطةً بعد نقطةٍ بعد نقطة، وصوتاً بعد صوتٍ بعد صوت، فيبدأَ التغييرُ بطيئاً خجولاً متردِّداً، ويواصلَ أقلَّ بطءاً وأضعف خجلاً وأَخَفَّ ترَدُّداً، ثم يواصلَ أكثرَ سرعةً وَوُضوحاً وَوُثوقاً، ثم أسرعَ فأسرعَ أسرع، ويكون التغييرُ المنشود من فردٍ ثم من فريقٍ ثم من مَجموعةٍ ثم من مَجموعاتٍ ثم تَجرُفُ الموجةُ المترددين فينهضُ الشعب تدريْجاً ثم صحوةً جماعيةً، وينقلب الواقع إلى واقعٍ جديد.
هذا ما أُؤَمِّلُه من هذه الـ”نقطة على الحرف”: أنْ تتكاثرَ في لبنانَ النقاطُ على الحروف، ثم النقاطُ على الصخور، فتنحفرُ الصخور بالواقع الجديد، ونتركُ لأولادنا وأحفادنا صخوراً جبليةً لبنانيةً مَحفورةً ببصمات التغيير. فالتغيير لا يكونُ من القمّة ولا من الوسط (أي لا من الحكّام ولا من المسؤولين، فهؤلاء مقطوعٌ الأمل من معظمهم)، بل التغييرُ يبدأ من القاعدة، من شعبنا، شعبِنا الطيّب الذي يُنتج عندها أجيالاً جديدةً جديرةً بالعيش في لبنانٍ نقيٍّ مِما نعانيه نَحن ونعايِنُهُ نَحن.
توجُّهي إذاً ليس إلى المسؤولين (سمعوا أو لم يسمعوا). توجُّهي إلى شعبنا الذي، جيلاً بعد جيل ونقطةً بعد نقطة على حرفٍ بعد حرف وصخرٍ بعد صخر، لا بُدَّ واصلٌ إلى التغيير الخليق بلبنان أولادنا وأحفادنا الذين لم يولَدوا بعد.