510: نهار في “طنجة” ابن بطوطة

نهار في “طنجة” ابن بطوطة
السبت 18 آب 2007
– 510 –
كنتُ لا أزال مُمتلئاً مِما سمعتُه في أصيلة (المغرب) عن مرور الفينيقيين (والقرطاجنّيين بعدهم) على شاطئها (واكتشاف نقود فيها مسكوكة بحروف اللغة البونية) حين راح رشيد (مرافقي الى طنجة) يشرح لي عن أهمية طنجة في السياحة المغربية كل عام، فينعصر قلبي على كل واحة سياحية في لبنان مُجمّدة هذا الصيف والصيف الماضي بسبب الأوضاع المتتالية في بلادي.
أخذْنا الطريق السريع من أصيلة الى طنجة (35كلم) عبرنا مَحطتَي “أداء” (كما في أوروبا وأميركا: دفع لاستعمال الطريق السريع) واجتزنا فلواتٍ معظمُها مؤهَّل زراعياً: وادي لحلو، وادي غريفة، وادي الحاشف، مَحمية تَهدارات (وفوق واديها الهائل ونَهرها العريض يَمتدُّ جسر وادي تهدارات بطول 1200 متر وهو أطول جسر في المغرب)، جزنايا، وادي بو خالف، مفرق مطار ابن بطوطة. وعند مدخل طنجة مفترق طريقين: يساراً الى طنجة، ويميناً حرص رشيد على القول إنه “يؤدي الى مدينتنا التي لا يزال يَحتلُّها الإسبان: سبتة”. فقلتُ له إنني أعرف تماماً غصة أن تكون في بلادنا بقعة أرض محتلّة.
في “مغارة هرقل” (على شاطئ طنجة) لم يكن دليلي السياحي “المهدي” يعرف عني شيئاً حين راح بكل حماسة يشرح لي أن الفينيقيين سكنوا هذه المغارة من الغرانيت (الذي يكسر الحرارة) واقتطعوا من سقوفها مئات أحجار الرحى ليتاجروا بها في المدينة قويةً من الحجر الرملي المجبول بعظم السمك ولم يسكنها بعدهم أحد منذ آلاف السنين ولا تزال آثارهم واضحة فيها.
عند قمة منارة “رأس سبارتيل” العالية كان السياح كثيرين يتمتَّعون بمنظرين: لقاء المحيط الأطلسي بالبحر الأبيض المتوسط عند خيط واضح المعالم في الماء بين الماءَين، ورؤية مدينة “تاريفا” أول مدينة في جنوب إسبانيا تبلغها السفينة عبر مضيق جبل طارق (13 كلم في35 دقيقة) قاطعة رأس مالاباتا الفاصل بين المغرب وإسبانيا (المسافة نفسها التي قطعها طارق بن زياد).
في فندق “الْمِنْزه” سألتُ مديره الـ”سي هشام” عن سرّ الأبيض والأزرق في الجدران والشبابيك وحتى القرميد، فقال لي إنهما لونا المتوسط الذي يلتقي الأطلسي في هذه المدينة البحرية الجميلة. وحين علم الـ”سي هشام” أنني من أهل الثقافة والفنون، راح يعدِّد لي كبار الأعلام الذين زاروها أو سكنوا فيها: هنري ماتيس (وفيها رسم سنة 1912 لوحته الشهيرة “منظر من النافذة” حين اضطره المطر الشديد الى ملازمة غرفته في الفندق أربعة أيام متتالية)، أوجين دولاكروى (نزل في “فيلا دو فرانس” أقدم فندق في المدينة منذ 1861)، فرق مسرحية عالمية لعبت على خشبة “مسرح سرفانتس” (تأسس سنة 1911)، ونستون تشرشل، جان جينيه، تينيسي وليامز، بول باولز،… وهي أوحت أعمالاً أدبية وفنية كثيرة، منها رواية ابن فاس الطاهر بن جلُّون “يوم صمت في طنجة” (1990).
وشرح لي الـ”سي هشام” أن طنجة أقل المدن المغربية تلوثاً لأن الرياح تأتيها من المتوسط فتدفع التلوُّث صوب الأطلسي وتبقى طنجة نظيفة من كل تلوُّث بيئي، ما يجعل صحوها صافياً يَشدُّ الرسامين بألوانها المتوسطية الحادة والنقية معاً.
وبعد تشديد الـ”سي هشام” على اعتزاز أبناء طنجة باثنين من أبنائها: الرحَّالة الأشهَر ابن بطوطة (1304-1368)، والكاتب محمد شكري (ولد في بني شكر الريفية وعاش في طنجة ومات فيها وحيداً مقهوراً سنة 2003)، أخذني الى بَهو كبير فخم أنيق وبادرني: “هوذا المقصف الذي يعتزّ به مؤسسو هذا الفندق منذ بنائه سنة 1931، ويواصل أبناؤُهم هذا الاعتزاز ويتركون البهو على ما هو، بطابعه المغربي، فيرمِّمون كل ناحية في الفندق إلا هنا، لحرصهم على تراثية الصالة بكل ما فيها”.
ثم التفت إليّ الـ”سي هشام”: “من هذا الحرص، يا أستاذ، الإبقاء على سقفه الجميل كما هو منذ ثلاثة أرباع القرن. أنظر الى فوق، يا أستاذ، وتأمّل هذا الخشب النقي القوي الذي يحمل هذا السقف الواسع الهائل. إنه خشب الأرز الذي أوصى عليه مؤسسو الفندق خصيصاً من عندكم، من جبال لبنان”.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*