السبت 28 تشرين الثاني 2006
-470-
لا يمكن المرور بقراءة عابرة على أخبار احتفالات فرنسا هذه الأيام بمرور 60 عاماً على صدور رائعة أنطوان دو سانت إكزوبري “الأمير الصغير” (1946-2006) وهي باتت صادرةً حتى اليوم في 160 لغة ولهجة، ومباعةً في أكثر من 80 مليون نسخة (ثاني أكثر الكتب الفرنسية إعادة طباعةً بعد “بؤساء” فيكتور هوغو). والاحتفالات تشمل أعداداً خاصة (أو ملفات خاصة أو دراسات وملاحق خاصة) في المجلات والصحف، وحملات توعية وتثقيف في المدارس على الرواية وصاحبها، وبرامج إذاعية وتلفزيونية، حتى أنّ شركة طيران خاصة نظَّمت رحلات فوق باريس في منطاد هوائي للأولاد منذ سن السابعة.
هذا في فرنسا 2006. وماذا حولنا في 2006؟
كشف أحدثُ إحصاء لمنظمة الأونسكو (استناداً إلى تقرير التنمية الإنسانية العربية) أنَّ “كلّ 300 ألف عربي يقرأون كتاباً واحداً، أي أنَّ العرب (300 مليون نسمة في 22 دولة عربية) يقرأون 900 كتاب فقط”، وأنّ “إنتاج الكتب في البلدان العربية لم يتجاوز 11 % من الإنتاج العالمي للكتب، مع أن العرب اليوم 5 % من سكان العالم”، وأنّ “مداولات سوق الكتاب العربي بيعاً وشراءً لا تتجاوز 4 ملايين دولار أميركي سنوياً، بينما في دول الاتحاد الأوروبي وحده تبلغ 12 مليار دولار”.
أُشيح عن هذه الأرقام في العالم العربي الذي يبدو، بالواقع المرير، “خارج زمن القراءة”، وأُسقط الأرقام على القراء في لبنان (نسبة إلى عدد سكانه) ليخرج رقم هو بين الْمُعيب والمخجل، مع أن “بيروت عاصمة الكتاب في العالم العربي”.
وأُشيح أيضاً وأيضاً عن الـ”كم” (المُعيب) من القراء عندنا لأنتقل إلى الـ”ماذا” فإذا الـ”ماذا” أكثرُ عيباً، وإحصاءات معارض الكتب عندنا واضحة في ذلك حين تكون الأكثرَ مبيعاً كتبُ السياسة والطبخ والأبراج. وهذه الـ”ماذا” تنطبق أيضاً على برامج التلافيز عندنا والإذاعات، ولو أشار إحصاء إلى الساعات الطويلة التي يمضيها اللبنانيون يشاهدون (أو يسمعون) تلك البرامج، أو الذين يقرأُون الصحف (أقسامها السياسية تحديداً) لكانت النتائج مماثلة الخيبة، وتشير إلى أيّ مدى شعبنا “مُسَيَّس”.
صحيح أن كل شعب في دول العالم “مُسَيَّس” إنما بمقدار، بينما شعبنا أصبح (كفئران المختبرات) أفضل مثال للشعب الذي يتكوّن في معظمه من أذناب السياسيين: أتباعهم، محاسيبهم، أزلامهم، حبوب مسابحهم، حطب مواقدهم، حمّال يافطاتهم، ببغاويّ شعاراتهم، أغنام مهرجاناتهم السياسية، قطعان حملاتهم الانتخابية، قوافل صحاراهم “الفكرية”، وكيف من شعبٍ فيه هذه الآلاف المؤلَّفة من الأعداد الْمسيَّسة ننتظر قراء يُقبلون على كتب الشعر والأدب والرواية والفكر وصالات المسرح وأمسيات الموسيقى الكلاسيكية والمجلات المتخصصة بشؤون الحضارة؟
هذا الشعب اللبناني نفسُه الذي خرج منه عباقرة النهضة والفكر والعلوم والصحافة والفنون، الشعب الذي مرت على تاريخه احتلالات وانتدابات وجيوش وقهرها جميعاً وبقي متجذراً في أرضه متشبثاً بتاريخه وآثاره وتراثه، هل يليق به أبناؤُه اليوم وأحفاده الذين يتجمعون حول “توك شو” تلفزيوني سياسي، ويتناقشون حول تصاريح “بيت بو سياسة” في الراديوات والجرايد، ويتحزَّبون ويَتَمَهْرَجُون وينساقون وينقادون لهذا أو ذاك أو ذلك من قادتهم السياسيين وزعماء عشائرهم وقبائلهم ومزارعهم؟
الشعب الذي ساستُه (في ردح منهم) أُمِّيُّو فكر وحضارة وتاريخ، كيف يمكن أن يؤول وراءهم إلاّ إلى الجهل والأُميّة؟
وهل كان يمكن (تشبُّهاً بشعب فرنسا و”الأمير الصغير” هذا العام) الطلب من شعبنا أن يكون العام الماضي تنبَّهَ إلى مرور 100 سنة على صدور “الموسيقى” أول كتاب لجبران (1905) أو يتنبَّه هذا العام إلى مرور 100 سنة على صدور “عرائس المروج”؟
من الآن حتى نبلغ أن نحتفل بعظمائنا ونتاجهم (كشعب فرنسا المحتفل بـ60 عاماً على “الأمير الصغير”) على شعبنا أولاً أن يرفع رقابه الخانعة ويخلع عنها نير كل “أمير كبير” أوصله إلى الجهل والأميَّة.