السبت 3 حزيران 2006
-450-
التجربة التي بدأ الكونسرفاتوار اللبناني يزاولها منذ فترة، بتنظيم أمسيات موسيقية يُحييها تلامذة المعهد الوطني العالي للموسيقى، بإشراف رئيسه الدكتور وليد غلمية الذي أوكل شأن الأمسيات وأوركسترا التلامذة وقيادتها الى الأستاذ في المعهد إدغار وديع، تتخطَّى كونها تجربة عادية لظاهرة طالبية عادية، لتكون وعداً ببراعم لبنانية مَن يدري مَن سيكون منها ذات يوم ذا شأن في العزف على آلته، شأن كبار العازفين اللبنانيين الذين بدأوا براعم ثم تهيأُوا في أمسياتٍ محلية ثم انفتحت لهم آفاق العالم فباتوا اليوم عازفين مشهورين في العالم!
أهمية هذه الظاهرة في ما تَخلقه من شعورٍ لذيذ، غامضٍ ولذيذ، لدى التلميذ اليوم: أن يقف على منصة العزف، كأساتذته حين يعزفون في كونشرتوات وأمسيات، كعازفين كبار يراهم على شاشة التلفزيون، ويجد أنه مثلهم، تماماً مثلهم، ينظر الى قائد الأوركسترا، يأخذ منه إشارة البدء، ويعزف، يعزف: عينٌ على صفحة النوطة أمامه، وعين على قائد الأوركسترا، وهو يؤدي أعمال الكبار من الموسقيين العالميين.
أهمية أخرى لهذه الظاهرة: مزاملةُ هؤلاء التلامذة كبارَ المؤلفين الموسيقيين العالميين، فيصبحون أصدقاء لهم، رفاقهم، مرافقيهم في عزفهم ودنياهم وعالمهم (بعيداً عن واقع أهلهم وأجواء بلادهم وبرامج الـ”توك شو” السياسية في التلفزيون)، فيكبرون على نظافة في عقلهم، ورهافة في ذوقهم، وجمال في تفكيرهم، والموسيقى في أساسها ينابيع جمال.
هذه الظاهرة تأخذنا الى أُخرى: انغماس تلامذتنا في الفنون التي لم تعُد مدارسنا تعيرها كبير أهمية خارج أوقات الصفوف الأكاديمية التدريسية، مع أن الفنون تُهذِّب ذائقة التلاميذ وتساعدهم، أكثر، على استيعاب مواد المنهاج المدرسي.
عن اليونان أن الفنون تسعة: الرسم، النحت، الشعر، النثر، الموسيقى، الغناء، الرقص، العمارة، المسرح. فماذا لو انغمس تلامذتنا منذ سنوات دراستهم الأُولى في واحد (أو، يا حبذا، أكثر) من هذه الفنون فينشأون على تربية أخرى، على نشأة أخرى، على عقلية أخرى، ومن هنا: على وطن آخَر. فعبثاً نتشدّق بالكلام على لبنان جديد، لبنان الآتي، لبنان الغد، إذا كان جيلنا الجديد سيكبر بعيداً عن الفنون الجميلة، وقريباً من الأجواء السياسية التي تملأُ لبنان اليوم (والغد، إذا بقينا كذلك) وتخنقه بثاني أكسيد الكربون السياسي والحزبي والعقائدي والعشائري والقبائلي والديني والمذهبي، والاصطفاف وراء زعماء العشيرة والقبيلة والحزب والمنطقة والحي والنيابة والوزارة، والانسياق وراء حمل اليافطات والشعارات والحماسة لتلبية كبسة زر المظاهرات ورؤسائها ومقاوليها ومندسّيها، ما سيؤدي بجيلنا الجديد، سلفاً، الى الخراب الذي فيه خراب الوطن.
فيا أهالي أبناء لبنان البراعم: أبعدوا أولادكم عن أن يكونوا أزلاماً ومحاسيب للسياسة والسياسيين، وليكونوا أصدقاء موزار وشكسبير وفيكتور هوغو وفان غوخ ورودان ونورييف والياس أبو شبكة وجبران ومصطفى فروخ وعمر الأُنسي وسائر المبدعين اللبنانيين والعالميين الذين إذا كبروا على نتاجهم الأدبي والموسيقي والتشكيلي والفني، يكونون بعدها خميرة لأولادهم من بعدهم، فلا يعود زعيم سياسي يجعل أولادكم وأحفادكم حبوباً في مسبحة يطقطق بها بين أصابعه الغليظة، ولا حطباً يرميه في موقدته ليبقي شعلة زعامته السياسية متوهجة له ولأولاده من بعده.
خلاص جيلنا الجديد: الابتعاد عن الاصطفافات السياسية والانصراف الى الفنون، الى واحد أو أكثر من الفنون التسعة التي تبني جيلاً على أسس الجمال، جيلاً لن يقتتل أبناؤه في ما بعد، جيلاً يليق بالوطن الحضاري المتمدن الراقي الذي نُحبّ أن نغمض عيوننا الى الأبد مطمئنِّين الى أنْ سيكونُهُ بعدنا لبنان.