السبت 11 آذار 2006
-443-
حين استضاف أمين الريحاني (1938) مي زيادة في بيت قبالة بيته في الفريكة، لتَنْقَهَ من أزمة صحية ونفسية رهيبة كانت تحملها معها من مصر، لم يكن يحدُس أن سيجيءُ يومٌ في مصر تصبح فيه مي زيادة “مصرية”، وهو “جاسوساً أميركياً”.
حين أقمنا (في “الأوديسيه”) مهرجان مي زيادة سنة 1999، تعاوناً مع الأديبة الكبيرة سلمى الحفار الكزبري (استقصت مي 16 سنة متتالية وكتبت عنها أوسع دراسة وأشملها)، سعينا مع السلطات المعنية في مصر الى استعادة رفات أديبتنا اللبنانية من القاهرة، فتمنّع المسؤولون هناك عن تسليمنا الرفات (اليوم مركون على رفوف مجهولة بعد هدم الضريح الخاص) والحجة ليست لوجستية ولا بروتوكولية بل “قوميةٌ” مفادُها أنّ مي زيادة مصرية فلماذا نقْلُ رفاتها الى لبنان؟
وإذا كان صحيحاً أن مي زيادة تحمل الجنسية المصرية، فالصحيح طبعاً أنها لبنانية، بنتُ شحتول (فتوح كسروان) وتلميذةُ معهد عينطورة وأميرةُ منابر بيروت ولها كتابات حنينية عن وطنها لبنانها لا مجال لتعدادها هنا، وتالياً لا يُمكن مصريّتها التي نحترم أن تلغي لبنانيتها التي لا يحترمون.
وقبل أسابيع طلعَت علينا مجلة “الهلال” اللبنانيةُ الْمُنشِئ (جرجي زيدان) المصريةُ الصدور (القاهرة – أيلول 1892) في عددها للشهر الماضي (شباط 2006) بمقال مطوّل على 19 صفحة (من 6 الى 25) اكتشف فيه كاتبه الأشوس مجدي الدقاق أن الريحاني جاسوس أميركي، ووعدَنا بالبقية في العدد التالي (آذار 2006) وهو صدر قبل أيام وفيه (على 20 صفحة من 44 الى 64) ملف كامل عن الموضوع يتضمن مقالاً للراحل محمد أنيس (صاحب ما سمي “الوثيقة الخطيرة” عن الريحاني)، وتعقيبين من خيري منصور ومحمد هيكل، ومن زميلنا عبده وازن استوجب رداً انفعالياً غير علمي من مجدي الدقاق نفسه.
مجال الرد على “الهلال” ليس في هذه الـ”أزرار” بل سيكون في مقال مطوّل لـ”النهار” قريباً. لكن المؤسف ما يلفت للنظرة الأُولى، تمهيداً للرد على “الهلال”، ونعهدها رصينة على صورة منشئها، أن تَعمد الى ما وهِمَت أنه “سبق صحافي” بنشر صورة الريحاني على الغلاف وتحتها عبارة “وثيقة خطيرة” ثم تحتها العنوان العريض “أمين الريحاني جاسوس أميركي” استدراراً منها أن يكون هذا الغلاف حافزاً للقراء على اقتناء العدد.
أما أن يكون النص المنشور “وثيقة” فهذه سذاجة، لأن مضمونها وارد في أماكن عدة من مؤلفات الريحاني. وأما أن تكون الوثيقة “خطيرة” فهذه أُضحوكة، لأن ما كتبه فيها الريحاني لم يكتبه سراً ولا شاءه “تقريراً استخباراتياً” بل توعية للسلطات الأميركية على معاينات له عربية يجدر بتلك السلطات أن تعرفها فتعي أهمية عالم عربي كانت حتئذ تجهله وتتكئ على البريطانيين كي تعرفه. وأما أن يكون الريحاني “جاسوساً أميركياً” فهذا عنوان كاريكاتوري يدل على أمرين: أنّ كاتب المقال مسيّس العقل والتفكير والهوى ويرى الأُمور بعين واحدة (نوع من الناس كان يسميه الريحاني نفسه “الجمل الأعور”)، وأن الكاتب مجدي الدقاق (وهو رئيس تحرير غير دقيق وغير مدقّق) “بَطَحَ” العنوان كبيراً على الغلاف فأثبت أن مجهولاته واسعة عن الريحاني، وأنّ معلوماته الواسعة لا تعدو كونها انفعالاً “قومياً جداً” من حضرة “عربي جداً” عمد (عن جهل وتسرُّع) الى تشويه القصد من نص أمين الريحاني كي يسدد حساباته مع الأميركان الذين لم يمانعوا من عودة جثمان جبران الى أرضه الأُم (1931) ولا اعتبروا اللبنانيين جواسيس أو نصوصهم تقارير أو بياناتهم “وثائق خطيرة”.
أما الرد الدقيق المدقق على الدقاق فله قريباً مقال مطوّل مفصل مثبت بالوقائع الدقيقة “كما جاء في الكتب”.