السبت 1 تشرين الأول 2005
-427-
بعد الظاهرة الاستثنائية التي شهدها لبنان في 14 آذار (و”أرعبت” الكثير من الأنظمة العربية) جاءت الانتخابات النيابية ففعلت فعلها (كالعادة إذ تدخل السياسة على نجاح فتفسده لأغراض أصحابها ولورداتها من “بيت بو سياسة”) وخشي الكثيرون منا على أن تتفكَّك اللحمة التي تجسدت رائعة حتى دمع الفرح في ساحة الحرية، حتى خفنا على انهيار ذاك الالتحام من كل لبنان الى كل لبنان.
ولعلّ الفدية الكبرى التي أزالت ذاك الخوف من التفكك (الذي كان وراءه زعماء الفصائل المفككة من “بيت بو سياسة”) دفعتها عنا جميعاً العزيزة مي شدياق التي فقدت ساقها وذراعها لكي يربح لبنان من جديد وحدة أبنائه من كل لبنان الى كل لبنان.
فهل كنا في حاجة، فعلاً، الى ضحية من طراز زَنبقيَّة مي كي تفتدي العهر السياسي الذي كاد يفكك أوصال شباب لبنان بعدما الْتحموا، وبعدما توحَّدوا، وبعدما تعانقوا وعاشوا معاً في خيام الكرامة والحرية أياماً وليالي الى أن جاء بابازات السياسة فتفرقوا من جديد صفوفاً واصطفافات ووصفات انتمائية متفرقة الجذوع والجذور فرّقت شبابنا من جديد الى اصطفافات في ما بينهم جديدة؟
هل كنا فعلاً في حاجة الى الـ”يا عيب الشوم” رحنا نطلقها في وجوه العاهرين من أصحاب الانتماءات والولاءات السياسية حتى جاءت الـ”يا حرام الشوم” في حادثة العزيزة مي شدياق تنقذ غرق شبابنا وأهالينا في خنادق متفرقة متباعدة (بسبب سياسييهم) وتعيدهم جميعاً الى الالتفاف والتخاصر والتكاتف واللقاءات التضامنية في ساحة الحرية وفي نادي الصحافة وفي المجلس الوطني للإعلام وفي أدما (المؤسسة اللبنانية للإرسال) وفي طرابلس وفي صيدا وفي بعلبك وفي مرجعيون وفي راشيا وفي حاصبيا لكي يستعيدوا حقيقة 14 آذار بعدما أقام السياسيون حاجزاً أمام الآذاريين ليردعوهم عن التوحّد كي لا يفسدوا عليهم زعاماتهم السياسية الكرتونية؟
يتحدثون عن “أشباح”؟ الأشباح فصيلان: فصيل غير منظور يتحرك في العتمة والغفلة، وفصيل منظور يتحرك في الضوء وفي النهار، ومتى عملنا على إزالة المنظورين من أمامنا ومن حولنا ومن بيننا يهرول غير المنظورين تلقائياً لفقدانهم الحماية والغطاء.
وأين هم المنظورون؟ إنهم على شاشاتنا ووراء ميكروفوناتنا وعلى صفحات صحافتنا، تدل عليهم انتماءاتهم وطرائقهم في التفكير والتنظير والتعبير، وما على الشعب إلاّ أن يصغي إليهم ويشاهدهم ويقرأ لهم حتى يعرفهم ويشيح عنهم ويحاسبهم على انتماءاتهم لغير لبنان أو لأبعد من لبنان أو لتيارات خارج لبنان. شو يعني؟؟ أن يصبح لبنان “جزيرة”؟ أكيداً لا. لكن لبنان الموحَّد المتماسك بأبنائه المؤمنين به هو أوّلاً: شعباً وأرضاً ودولة، نموذجٌ لمحيط لم ير من لبنان حتى اليوم (ومنذ ردح من الزمن غير قصير) سوى فئات مشلّعة وانتماءات متباعدة الى هنا وهناك وهنالك، وفصائل سياسية موزاييكيَّة تريد لبنان على قياسها ووفق اتجاهات لورداتها، واستسلامات الى هنا، واستزلامات الى هناك، وزحفطونيات الى هنالك، حتى باتت الهوية اللبنانية في جيوب بعضهم كأنها مؤقتة أو مستعارة.
يدُ مي شدياق المبتورة فلتكنْ أمثولة قاسية لنا في الانتماء الى ما سوى لبنان، وساقها المبتورة فلتكنْ ذكرى قاسية لنا في الذاكرة، وليكنْ أنّ أعضاءها الناقصة أكملت إيمان كثيرين ممن لا يزالون يصدّقون زعماء وقادة ولوردات ثرثارين تنظيريين يسوقون أزلامهم ومحاسيبهم الى الضلال، وليكنْ أنّ فاجعة مي ببعض جسدها كانت الضحية ليعود جسد لبنان فيلتحم من جديد بنا جميعاً فلا يكون انفصال عن جذورنا وجذوعنا وفروعنا، كالأرزة اللبنانية الواحدة الموحدة الجذور والجذوع والفروع، وليكنْ أنّ مي شدياق، يوم تعود إلينا قريباً، لن تعود زميلةً وحسب، بل شاهدةً قاسية على نُعمى أن نُعطى وطناً كلبنان، وأن نعرف كيف نحافظ عليه قبل أن يصبح أندلساً لا تنفعه دموع عبدالله الصغير.