السبت 27 آب 2005
-422-
منذ انطلاق الواحة الرحبانية (ضيعة، مدينة، وطن،…) وهي تثير جدلاً بين أن تكون “مدينة فاضلة” (“سيلينا” في “هالة والملك”)، أو ضيعة يوتوبية (“بياع الخواتم”) أو وطن خيالي (“جبال الصوّان”) تحرّكها عادةً شخصية لا تقلّ عن المكان يوتوبيّةً (“منتورة” في “الليل والقنديل”، “عطر الليل” في “إيام فخرالدين”، “الصبيّة” في “جسر القمر”،…). وتواصلت “رَحْبَنَة” الشخصية اليوتوبية في السياق نفسه مع أعمال منصور الرحباني (بعد غياب عاصي عام 1986، أي بدءاً من “صيف 840” عام 1988، مروراً بالمتنبي نفسه في “المتنبي”، والمعتمد بن عبّاد في “ملوك الطوائف”، فالملك رعد الثالث في “حكم الرعيان”، وصولاً الى شخصية جبران في”جبران والنبي” العمل الجديد الذي شهده طوال هذا الأسبوع مسرح مهرجانات بيبلوس الدولة). فحتى أورفليس جبران “تَرَحْبَنَت” مع منصور الرحباني لتخرج إلينا مرشرشَةً بنقاط ندى رحبانية تجعلها نسيبة عضوية في شجرة عائلة القرى والمدن والأوطان الرحبانية السابقة في الأعمال الرحبانية السابقة.
هل هذا يضير الأمانة التاريخية (حين العمل الرحباني مقطوف من التاريخ) أو السياق العام (حين العمل موضوع بكامله من المخيلة الرحبانية)؟ أبداً. فأيُّ فضل للمبدع إن كان مجرد مؤرّخ تسجيلي أو تحليلي أفقي ينقل (أو يحلل) الوقائع من كتاب التاريخ الى خشبة المسرح بدون بصمة منه إبداعية خاصة أو بدون نكهة منه أسلوبية تشير الى قاموسه الفني ومناخه التأليفي المألوف؟
في هذا السياق تندرج أورفليس “الرحبانية” في جديد منصور الرحباني “جبران والنبي” وما بدا من نسيجها الكتابي وقاموسها الحواري وحتى نبر أدائها (مع رفيق علي أحمد “جبران” وغسان صليبا “المصطفى”). فهنا تتلاقى شخصانية مع شخصانية أُخرى: ألم يخرج المسيح نفسه “جبرانياً” في كتاب جبران “يسوع ابن الإنسان”؟ من هنا أن كل عمل لا يحمل بصمات صاحبه يبقى بارداً حيادياً لا فعالية له ولا بقاء. ومن هنا لا ضير أن “يَتَرَحْبَنَ” جبران و”تَتَرَحْبَنَ” أورفليس (لا نيويورك) في العمل الجديد “جبران والنبي” بكل مفاصله: من موسيقى أُسامة رحباني (صاحب الفكرة ورؤيتها والتأليف الموسيقي، بعباراته الموسيقية التي “تَرَحْبَنَت” هي الأُخرى لا بدون تَمَيُّز صاحبها بأسلوبه الخاص) الى تنفيذ مروان الرحباني (الذي راح، بإخراجه، يُمَشْهِدُ العمل بجمالية بصرية ساعدت على إدخال جبران ومصطفاه وأورفليسه ونيويوركه الى الذهن الجماعي) الى الحوارات (أدّاها رفيق علي أحمد وغسان صليبا لا بدون خصوصية كلٍّ منهما) الى الكوريغرافيا الوظيفية (دولّي صفير نقلت العبارة الرحبانية المكتوبة والملحّنة الى أجساد عناصرها بطواعية شابها أحياناً بعض تكرار) الى تَوازي ماري هاسكل (جوليا قصار المتمكّنة) والميترا (أماني السويسي) لينجمع جبران كتابةً وشخصيةً ورؤيةً ورسالةً فيخرج “رحبانياً” من دون خيانة السيرة الأصلية (تعقَّبها منصور الرحباني بتؤدة وتفصيل) أو النص الحرفي (نقله منصور بأمانة، وألبسه أسامة موسيقاه بتناسُب).
وإذا كان المتنبي (النص المسرحي) خرج من قلم منصور الرحباني مهيَّأً لتسهيل المقاربة الأصلية مع الشاعر، فإن نص “جبران والنبي” خرج كذلك من قلم منصور الرحباني مهيِّئاً جيلاً جديداً لمقاربة جبران من زاوية تسهيلية (بدون مساومة) تجعل الدخول الى عالم جبران (كالدخول الى أورفليسِهِ) ذائقاً سائغاً بغبطة تلقُّف هذا العبقري اللبناني الذي ما زال يتجدد كل رَدح، وبغبطة أن نكون ربِحنا لخزانتنا المسرحية اللبنانية عملاً رحبانياً جديداً يضاف الى الكنز الرحباني الذي صنع مجداً مكرَّساً للبنان.