السبت 10 نيسان 2004
-351-
الأربعاء الأسبق (31 آذار2004) كان الشِّعر في عيد. كانت نقابة الصحافة تستقبل قمّةً تكرِّم قمّة. والحدَث كان خبراً في الصحافة مقتضَباً لكنه عالي الإيحاء: “ذهبَت جائزة سعيد عقل الأسبوعية الثمانون بعد الْمئة إلى الشاعر طلال حيدر على “مجموعة قصائد كلها ملكات”…”.
عنوانان قبل دخول نقابة الصحافة. الأول: 180 مليون ليرة لبنانية حتى اليوم دَفَعَها شاعر. لا حاكم، ولا رئيس دولة، ولا وزارة، ولا دولة، ولا أمير نفط، ولا متموّل خليجي. لا. بل شاعر. هل في العالم اليوم، هذا العالم الواسع الممتدّ حتى القمر والمريخ، شاعر يدفع مليوناً كل أسبوع، لفتة وفاء الى المبدعين في بلاده؟ والعنوان الآخر: أن الجائزة تعطى لطلال حيدر على “مجموعة قصائد كلُّها ملكات”. وقال البيان بوضوح: “كلّها”. ها هو نبل الشعر (ونعرفها، هذه، من سعيد عقل) يعترف بقصائد شاعر آخر “كلُّها ملكات”. فما أسعدنا، وأسعد الشعر، وأسعد لبنان الشاعر بهذه اللفتة.
ولم يكن طلال حيدر، شاعرُنا المقدود من أصالة بعلبك، أقلَّ وفاءً. ارتجل، شاكراً، بضع كلمات موجزات قالت كلَّ ما تجمّع في قلبه من حبٍّ لسعيد عقل الذي لا ينفكُّ يُبادلنا جميعنا حُبَّه الغامر. كأنما بلساننا جميعنا قال طلال ما قال، في وجه نقيق التشكيك والتطاول من أقزام نكرة على هامش الهامش، ما سوى لأن العملاق يحجب عنهم نور الشمس.
قال طلال: “سعيد عقل وسَّع الزمان”. وقال طلال: “كان الشاعر عند العرب فضيحة المرأة، تُحني رأْسها خجلاً من قصائده فيها. بعد “رندلى”، باتت المرأة ترفع رأْسها اعتزازاً”. وقال طلال: “كان الناس يعتقدون أن تاريخ لبنان الحديث يبدأ منذ بشارة الخوري، فَنَدَهَهُم سعيد عقل ليَدُلَّهم على جبيل وقدموس”. وقال طلال: “كان الاتِّباعيون يقولون إن اللغة نأتي بها من القواميس، ولا نعترف بلغة خارج القواميس. فجاء سعيد عقل وأثبت أنْ حين نكتب تولَد اللغة”.
وقال طلال: “سعيد عقل عرف كيف يلتقط النار السرية التي تُحرق أطراف الهواء. وعلَّمنا أنَّ الشاعرَ إنْ لم ينتصرْ في قصيدته الجديدة على ذاته في القصيدة السابقة يكونُ انهزم”. وقال طلال: “حَوْلَنا تنظيرٌ مَجّانِيٌّ كثير. والتنظير الحقيقي هو الإبداع. وكل الباقي طحالب دخيلة شعثاء يدعَسُها رعاة الماعز العابرون في حقل الشعر”. وختم طلال: “الحياة تعرف كيف تليق لمن يليق بها”.
بلى. كأنّما باسْمنا جميعنا تكلّم طلال، هذا الشاعر الْمُقِلُّ إنّما على اكتناز اللؤلؤ الضئيل بين رغوة الزبد الكثير.
قال ما تتداوله المجالس عمّن يشكِّكون في جائزة سعيد عقل أن تكون من جناه، وعمّن يَرَون في سعيد عقل مجد الأمس لا “إيقاع العصر”، وعمّن يجدون شعرَه لا يفي بمتطلبات الحداثة، وعمّن يسمونه “عتيقاً” في زمن “الحداثة” و”الحداثويين”.
يا حرام! وما أصدقَ نعْتَ طلال إياهم بـ”الطحالب”، هؤلاء الذين يركبون موجة “الموضة” ولا يدرون أن الموجة المقبلة للموضة التالية ستطيحهم الى النسيان ليأتي بعدهم أتباع الموجة الجديدة للموضة الجديدة. ولا يدري طحالب الموضة الحالية والموجة التالية وما بعدها، أنَّ راكبَ الموجة يعيشُ عمرَ الموجة، وأنَّ الغائصَ على اللؤلؤ يعيش ما يعيش اللؤلؤ، يعني ما يعيش بيتهوفن وشكسبير وسقراط وليونار دوفنتشي وكلُّ مَن هو ابنُ الكلاسيكيَّة التي لا انتهاء.
31 آذار الماضي، كان عيداً للشِّعر في لبنان، من القلب الى القلب بدون مهرجانيات استعراضية، قال فيه طلال حيدر باسمنا جميعاً أن سعيد عقل التسعيني ما زال حتى اليوم أَنْضَرَنا وأَفْتانا.