السبت 8 آذار 2003
-5 9 2 –
للكتابة عنه، طقسٌ هو بين الرهبة والتهيُّب.
هذا الصائغ الصنَاع، كيف تكتب عنه إن لَم تكن مُمتلكاً (أو مقارباً) بعض أبْجديّته؟
كيف، وهو من يقشّر الكلمات قبل أن يكتبَها، يَمسح عنها الغبار كي تنصَع، تتأَلَّق، تَهدل، حتى إذا كتبها انْهَمَلت عليك مَجلوَّةً بصفاءٍ أين منه دموع القمر أو ذهب الشمس الساطع!
خليل رامز سركيس، في أدبنا اللبناني، سنديانةٌ مباركةٌ يفيءُ إليها فيبري منقادَه كلُّ من يعتمد العربيةَ كتابةً. ذلك أنه، بِمجهره الْجمالِيّ، يصوغ الكلمة، العبارة، الْجملة، كما يشتغل الصيدلِي في معاييره: يَختار لَها هنا كلمة دون سواها، أو يَختارها هي لِجملة أخرى أو عبارة لاحقة. فالكلمة، منحوتةً في مكانِها من عبارته، ليست ما هي، بل ما لا يُمكن أن تكون إلاّ هي. وتأْتِي، أنّى كتَبَها، على صورته هو: رهافةً على رقة شفيفة، وأناقةً على كثير ضوء. لذلك ما زال، في ما كتبه وما زال يكتبه، يدهشنا بدون قصدٍ ولا انتباه، كزيتونة دهرية في جبل لبنانِيّ، تردِّد وحدها حكايات الأجيال غير منتبهةٍ الى مَن يَمر بِها من رفوف العصافير.
منذ ربع قرن، أو يزيد، منذ لَم تَعُد بيروت تشبه صفاءه، غادر شَمس بيروت الى ضباب لندن. وما زال هناك، مكتفياً من هناءته بعزلة الأديب عن مُحيطه الصاخب، رانياً من بعيدٍ الى الوطن الذي أحبّه كثيراً، يكتب متلمّظاً كلماته (كخبير خَمرةٍ يعرف كيف يَحتسي كأسه باحتراف الندمان)، ويرسل إلينا عن شرفة شيخوخته جديداً كل فترة عبر “دار الْجديد”.
وها “دار الْجديد” قبل أيام، طالعتنا بِجديده “شهادات ورسائل”، باقة من عندياته (منشورها وغير الْمنشور) كتب فيها عن أصدقائه بِحبٍّ طافحٍ من قلب كبير، وعن وطنه بشغفٍ هو بين مرارة العتب وعنف العشق.
وإخاله من منآه اللندني، يترقب كيف سيستقبل وطنُهُ جديدَ أديبٍ لبنانِي يَحمل ثَمانينه ويتحمّل ضباب لندن الصافي يريْحه أكثر من شَمس لبنان الْملفعة بغبار جيل عاق أرعن أمّي مارس في سنوات الْجنون جهلاً أطاح مبدعين من عندنا الى التهجير القسري، وكان بينهم من لَم يعرفوا أنه كنْزٌ لبنانِي اسْمه خليل رامز سركيس.
مع هذا، هو الذي نأى ولَم يكفر، حرص أن يترك على الغلاف الأخير من كتابه الْجديد قبلةً بشكل عبارة: “أُحاول أن أستحِقّ لبنان”. ذلك أن لبنانه هو، فوق الآنيات والعاديات والزبديات التي تتحكّم اليوم بِمصير لبنان.
شكراً لـ”دار الْجديد”، بأميرتِها الرشا ولقمانِها السليم، على إصدار خليل رامز سركيس لا في مُجَرّد مؤلفاته الكاملة، بل في تُحَفٍ طباعية تليق بأدب عالٍ لا يَجمل أن يصدر إلا بِهاتين الأناقة والأمانة.
بلى: للكتابة عن خليل رامز سركيس، طقسٌ هو بين الرهبة والتهيُّب. فكيف بِها حين تكون واعيةً أنّه سيقرأُها من منآه البعيد الْحافِي، لا بعينيه الصامتتين بل بِمجهرٍ له جَمالِي يَجمع في دقته بين شعرة الذهب في قياس جواهري، ومساحة الضَّوْع في جونة عطار.