السبت 6 تموز 2002
– 259 –
هذا رجل عاش حياته بين الكتب. منذ يافعاً كان، ولَم يستطع أن يُكمل دراسته الأكاديْمية، قرر أن يكون بيته الكتاب، فأعلاه حتى بات اليوم صرحاً كبيراً خرجت منه عشرات الكتب، رصينُها ينافس الرصين.
علامته أنه، كشيخوخته الْهادئة، صامتٌ على عمق سكوت. لكأنه، من صمت الكتب التي سبرها أو أستسبرها،اكتسب سكوت ما بين الدفتين على عميق ما تفجره الدفتان من براكين معرفة ورياح ثقافة وأدب وإبداع.
أخذ عن فؤاد كنعان رئاسة تَحرير “الْحكمة”، فواصل الطريق الى “حكمة” ريادية في الْمجلات الأدبية.
وأنشأ الصفحة الأدبية في “جريدة” جورج سكاف، فجعلها منبر الأقلام العالية ومنجم اكتشافات أدبية هي اليوم أَساس جوهري في معظم الدراسات عن أعلام أدبنا الْمعاصر. وهو هذا ما جعل قلمه ينبوعاً لِنهل الكثيرين.
وضع يده على ملف مي زيادة فكان، قبل نصف قرن من اليوم، أول من أضاء على قضية مي الْجدلية.
تناول جبران فتابع “حياته العاصفة” يوماً فيوماً، ما جعل جبران يَخرج من قلمه مادة خصيـبة لا تزال مرجع الدارسين الْجبرانيين، منذ ما قبل انكشاف رسائل جبران وماري هاسكل في مكتبة جامعة نورث كارولاينا، وقبل صدور كتاب النحات البوسطني خليل جبران، وهو على الأرجح أفضل مرجع بيوغرافي عن جبران.
بَحث في حياة أبو شبكة الْخاصة، وتابع نصوصاً له منشورة ومنـثُورة في الصحف والْمجلات، فتمكّن من لَملَمة أبيات “غلواء” التي قال الشاعر إنه “أحرقها” إرضاء لِحبه الكبير (ليلى)، فيما الأرجح (وعلى عكس رواية فؤاد حبيش عن الْموضوع) أنّ الشاعر نفسه (وباعتراف ليلى نفسها) أَشاح عن تلك الأبيات التي لا تبدو ظلت ترضي شاعريّته بين فجاجة فترة كتابتها (منـتصف عشريناته) ونضج فترة صدور الكتاب (1945).
غاص على تراثنا الأدبي اللبناني، فأطلع منه روائع أعلامه وأضاء عليها، من يوسف السودا الى يوسف غصوب الىشارل قرم، الى سائر الرعيل الذي رافقه هو أو عاصره أو درسه، فخرج من قلمه ضوءاً لازماً ضرورياً.
لَم تُلْهِهِ الوظيفة عن الإنتاج ولَم تعقّم خصبه الأدبي، فامتطى صهوتَها لتُريْحه من قلق الْمعيشة فيما انصرف الى الإنتاج الأدبي الذي (وأمثلتنا على ذلك كثيرة بين أعلامنا الأدباء) لا يُمكنه أن يوفر له هناءة الْمعيشة.
جَميل جبر، البحاثة الأدبي والْمِفضَال الكبير على الكثير من أدب لبنان الْمعاصر، يقال فيه الكثير ويـبقى هو (على صمته وعمقه ورصانته الأدبية الوادعة) أصدق من كل ما يقال فيه.
في اختـتامِهِ مهرجانَ تكريْمه قبل أيام (قصر الأونسكو) قال: “لا أدعو الى إحباط ولا يأس بل الى صحوة ضمير، لأن قَدَر لبنان أن يكون سبّاقاً في مُحيطه أو لا يكون”. ولعل هذه الْخلاصة هي التي كانت، منذ البداية، عنوان جَميل جبر الى العطاء الأدبي، فهو يعرف تَماماً أن لبنان الْحقيقي الباقي هو هذا اللبناني الأدبي الإبداعي.
لكن ما لا يعرفه هو، ونعرفه نَحن، أن جَميل جبر هو ركن أساسي متين من عظمة هذا اللبنان الأدبي الرائع.