الخميس 20 حزيران 2002
– 257 –
– “أَيَجوز أن تكون تشاؤمياً الى هذا الْحد، سلبياً الى هذا الْحد، والوطن يَحتاج الى نسمة دعم وتفاؤل”؟
قالَها لي بعد قراءته مقالي الأسبوع الْماضي (“أزرار” 256 – “النهار” 13/6/2002) وفيه صدمة فاجعة لشاب جاء من كندا يُمضي بيْن أهله شهراً فغادر في اليوم الرابع عشر.
للتوضيح الْجوهري: الشاب الذي غادر (ومثله كلُّ شاب واقف في الصفوف الطويلة أمام أبواب السفارات) لا يغادر “الوطن”، وإن هو يفعل، ففي غصة قاتلة وحنين مسبق الى أيامه بين أهله وأترابه في لبنان. إنه بالأحرى يغادر “الدولة”، وبتحديد أدق: يغادر أداء الدولة. من هنا ضرورة التوضيح الواثق والأكيد بين لبنان الوطن ولبنان الدولة.
لا أحد في الدنيا يُحِبُّ أن يغادر وطنه. ولكن كلَّ أحد في الدنيا يغادر الدولة التي تسوس وطنه حين تصبح الْمعادلة في نفسه وقلبه وروحه وقناعته واضحة بأن “الكرامة في الغربة وطن، والذل في الوطن غربة”. والْحاصل عندنا أن الْمواطن يشعر في وطنه بالذل وعدم الأمان وعدم الاستقرار وعدم الاطمئنان الى الْمستقبل، بعدما الوطن، بسبب الكثيْرين مِمَّن يسوسون الدولة في الوطن، أصبح مزرعة لِهؤلاء “الكثيرين” وأزلامهم ومَحاسيـبهم، حتى بات “كلب الْمير ميْر” على ما قاله الْمثل اللبناني القديْم الذي يتجدد كلَّ يوم في صيغة عصرية بسبب تصرفات بعض السياسيين.
ومع عالي إيْماننا بنوايا رئيس الْجمهورية لإقامة دولة القانون والْمؤسسات، ومع عالي ثقتنا بِجهود رئيس الْحكومة لتثبيت الاقتصاد اللبناني قوياً معافى وتقليص الْمديونية ومعالَجة خدمة الدين (ونعرف تَماماً أن هاتين عمليَّتان تَحتاجان الى نَفَسٍ طويل)، غير أن الْهدر الفاجع في الدولة (والذي ما زال على حاله رغم جميع الْمحاولات “السنيورية” للتقشف وشدّ الْحزام)، إضافة الى التجاوزات الرهيبة في الصيف والشتاء تَحت سقف واحد، والفوضى القاتلة الْمأساوية على الطرقات بسبب عدم تطبيق نظام السير بشكل صارم، والْخلل الفاضح في الإدارات الرسْمية وما فيها من رشاوى وبطء وكسل وتنبلة وغياب عن الدوام واستهتار بنظام العمل الإداري في الْمؤسسات الْحكومية (وهو ما تتصاعد الشكوى منه بشكل مُخيف، حتى أن رئيس الْجمهورية نفسه ألْمَح إليه)، إضافةً الى ما يعتري الْمواطن من قرف حين يتابع العمليات الانتخابية وما يرافقها من تَجاوزات ووقاحة وعهر واستهتار بكرامة مواطنين يعتبرهم بعض السياسيين قطيع غنم يديرونه كيفما شاؤوا، وإضافةً الى برامج الـ”توك شو” السياسية وما فيها من حك على جرب الناس وإثارة غرائزهم حتى بات اللبنانيون كأنّهم فئران مُختبرات سياسية أو “حيوانات سياسية” (ككلب بافلوف)، جَميعها (والكثير سواها) عناصر قاتلة تدفع بشبابنا أكثر فأكثر الى وقفة الذل أمام السفارات يوماً، يومين، وربّما أكثر، أفضل من أيامهم البليدة في “دولة وطنهم” يتحملون الذل كل يوم.
لا، يا صديقي الْمعاتب، لا يزايدنَّ أحد على لبنانيتي، فهذه لن تتزعزع، لكنني لست طوباوياً أكثر من الْمعلم الذي قال”باركوا لاعِنِيكم” ثُم هو نفسه حَمل السوط الغاضب وانْهال بـه على اليوضاسيين والفريسيين في الْهيكل.