254: هذه الـ”صفحات من لبنان”

السبت 1 حزيران 2002
– 254-
بين أكثر اللحظات التي رأيت فيها توفيق يوسف عوّاد مضيء الوجه، مشرق العينين، لَحظةَ بادرَني مبتهجاً وأنا أُصافُحُه داخلاً عَلْوَتَهُ الْجميلةَ في بْحرصاف : “أُنظر : أخيراً صدَر”. والتفتُّ الى هذا الـ”أخيراً صدَر”، فإذا على طاولته مُجلَّد ضخمٌ يَحوي جَميع أعماله (مكتبة لبنان) وكنت أعرف كَم قضى من نهاراتٍ وليا لٍ في مراجعة البروفات وتصحيحها والتدقيق فيها حتى تَخرج بالشكل الذي يرضيه.
واللحظة نفسُها كنتُ شاهداً عليها مع نزار قباني حيْن اتصل بي ذات يوم قائلاً : “أنا في بيروت، مستحبس في السمرلند، ولن أغادر غرفتي حتى أنهي تصحيح بروفات مَجموعتي الكاملة لتصدر قريباً بإشرافي”. وحين صدرت الأجزاء جَميعاً (دار الآداب) اتصل بي قائلاً بصوت مزقزق : “الآن ارتْحت. هي ذي مَجموعتي الكاملة كما أتَمنّاها”.
هذا الأمر حدث قبل أيام مع زميلنا الكبير جورج سكاف (نائب نقيب الصحافة اليوم، ووزيراً ذات يوم، وصديقاً نادراً كل يوم) بـصُدور مَجموعته الكاملة “صفحات من لبنان” (دار نوبيليس). ومن يعرف دقَّة جورج سكاف وتأَنُّقَه في الكلمة (مكتوبة ومقروءةً ومَحكية)، يدرك غبطته اليوم (ما أسعده بـها وشدة فرحنا له بـها) لصدور ثَمانية مُجلّداتٍ أنيقة تَحوي كتابته السياسية والأدبية والْجمالية سحابة نصف قرن من حياته الْمهنية الغنية بالتجربة : كاتباً وصحافياً ومسؤولاً إدارياً ووزيراً ونقابياً، ومثقفاً ضليعاً في شؤون لبنان.
مَجموعة “صفحات من لبنان” (ونَتَمناها في كل مكتبة ومكتب وبيت ومدرسة وجامعة) موسوعة لبنانية بقلم خبير لبناني ثقيف، توجز ردحاً نابضاً بالْحياة في مرحلة دقيقة من تاريْخ لبنان الْحديث. وما أحوجَنا الى شهودٍ صادقين يتركون لأجيالنا الْمقبلة وثائق مضيئةً عن لبنان النصف الثاني من القرن العشرين، كي لا تضيع الذاكرة اللبنانية الْحقيقية في متاهات مَن يستزلِمون ويستسلمون لغير الكيان اللبناني روحاً وفكراً وتراثاً.
التراث… هذه هي الكلمة. ومنذ بدئي ورشةَ تَجميع نتاجنا اللبناني (لـ”مركز التراث اللبناني” في الْجامعة اللبنانية الأميركية) وحصولي على وثائقَ ومَخطوطاتٍ وكتاباتٍ ورسائلَ وكتبٍ وأوراق منسيةٍ مهملَة من مبدعينا وأدبائنا وشعرائنا وفنانينا، متروكةٍ في عهدة أبنائهم أو أحفادهم أو ذويهم أو أصدقائهم، ازداد خوفي على ضياع تراثنا، وحرصي على ضرورة تَجميعه وحفظه وتوثيقه (في “مركز التراث اللبناني”) كي لا تضيع ذاكرتُنا في دهاليز التاريخ الذي لا يرحم الْمتكاسلين عن لَملمة تراثهم قبل أن يسقط في زوايا النسيان التي يُهملَها في مسيرته السريعة، الزمان الذي “يأْكل كلس الْحيطان” (“زنوبيا” للأخوين رحباني).
التحية لنبيل عبدالباقي (نوبيليس) على شجاعته النادرة في إصدار الْمؤلفات الكاملة للمبدعين اللبنانيين.
والتهنئة لزميلنا الكبير جورج سكاف على صدور مؤلفاته الكاملة بإشرافه وتدقيقه ورضاه، ففيها (من النفحة اللبنانية في تَحليلاته، الى النفحة الأدبية في “أجراس وادي الْحنين” و”أمارة الشعر” و”كرمنا في علّين”، الى القراءة السياسية) ما يَجعل هذه الْمجموعة بين أغلى ما نكتنز لأبنائنا في ذاكرة لبنان الْمستقبل.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*