الخميس 30 آب 2001
– 216 –
كان ذلك قبل تسع سنوات، وكنت في منآي الموقت (بحيرة الليمون- فلوريدا) أتصفح الجريدة، لحظة اصطدمت عيناني بصوت خبر صاعق : مات جورج غانم. وارتجّ حنيني فجأة، في ذلك المنأى البعيد، وأحسستني عاجزاً عن أي تعبير، حزناً أو صدمة أو أسفاً، فأمضيت ذلك النهار في دوامة انعدام الوزن، إلى أن انقضى هزيع طويل من الليل قمت بعده إلى كتابة قطعة حملتها الحب والحنين إلى جورج، رفيق الشعر والصداقة، حتى إذا شعرت بشفائي من الدوامة بعد تنفسي على الورق دلفت إلى النوم وفي يقظتي خيالات بسكنتا جورج غانم.
بسكنتا ! أية واحة وأية ذكريات، مع جورج، عند أم جورج، والشباب تحت العريشة : غالب، روبير، شكري، سمير، رفيق… وأحاديث وقصائد، وطيف “المعلم” عبدالله، رب البيت، يرافقنا راضياً عن أسرة ورفقة.
بسكنتا ! تاريخ من المحبة والصداقة، بين قرميد بيت عبدالله غانم، وقرميد بيت ميخائيل نعمية، وبينهما ذكرى فتى (رشيد أيوب) شدته إليها نيويورك فظل ثلج بسكنتا “يهيج” أشجانه في نسيج “أغاني الدرويش”.
وبعد عودتي النهائية إلى لبنان، كلما أزور بسكنتا يلفني هذا المناخ نفسه من المحبة والشعر والصداقات.
السبت المقبل (8 أيلول) يجمعنا جورج غانم مجدداً في بسكنتاه.
يجمعنا مرة أخرى، هو الذي كم جمعنا على رنات قصائده وحول منعطفات قلبه الكبير وصداقته الأصيلة.
يجمعنا في مناسبتين : إزاحة الستارة عن حفر نافر وضعه الموهوب شعراً ونحتاً رودي رحمة، ولقاء أدبي يلقي فيه التحية إلى الصديق الغائب الحاضر بيننا أبداً بعض من كبار محبيه : أدونيس، غسان مطر، سمير عطالله، محمد الفيتوري، إدمون رزق، إلى شقيقه غالب (رئيس مجلس الشورى) وجورج غانم رئيس بلدية بسكنتا منظمة الاحتفال.
وسيسترجع الأصدقاء من جديد، يوم الجمعة 8 أيلول، ذكريات مع جورج وعن جورج ومن جورج، هو الذي كان يعرف كيف يكون “جوهرجي” الصداقات، على أنفة عالية ومزاج دقيق، على حد رقيق بين الحنان والغضب، على حد مائي شفاف بين الحزن والفرح، هو الذي كانت عيناه الغائرتان تحملان دمعة صامتة حافية لم تنحدر يوماً على خده المنسبط خشية أن تخدش بسمة كان يوحي بها، ولو ظاهراً، ذلك الوجه الشاعري.
السبت 8 أيلول، سنكون في “ضهر الحصين”، المكان الأثيل الذي كان يدلف إليه جورج، في خلوته وفي أحلامه، لأنه كان المكان الأقرب إلى والده، خلوة ولا أروع، أمام هيبة صنين، وجلال الجبل الدهري، حيث يتلاطم الصمت بالصمت ليحدث هسيساً شعرياً لا يكون بدونه شعر ولا تولد إلا من تنهداته القصيدة.
كان ذلك قبل تسع سنوات، وكنت في الوقت نفسه تعزية لي أنني بعيد فلا أمشي في جنازته، لأنني كنت أضعف من أن أمشي في جنازة جورج الذي أحب.
السبت 8 أيلول سنقبل مجدداً جبين “أم جورج” ونحاضرها ونكاتفها، ونذهب معها إلى ضهر الحصين حيث قصيدة كتبها لها عبدالله غانم، وتركها تختمر هناك فيغتذي منها اليوم تراب جورج ويزهر شعراً سكوت التراب.