الأربعاء 15 آب 2001
– 214 –
كنا على الشرفة الجبلية الصيفية، قبالتنا القمر يمرشق بنوره التلال والجبال، حولنا الليل اللبناني الجميل، في إطار جبلي رائع كان يمكن أن يكون سهرة ساحرة شاء لها مضيفنا الفنان الكبير كل وسائل الراحة والاستمتاع، لولا أن كان بؤرق راحتنا طوال السهرة ما يتناهى من أصوات توزعها عيلنا المطاعم والمقاهي المجاورة، بعضها من التسجيلات الزاعقة، وبعضها الآخر بالأصوات الحية يجتاحنا بها صيصان المطاعم وقبابيط القهاوي، وينشرح لها صدر الرواد الكرام من اللبنانيين المهروقين بالأركيلة والتبولة والكبة النية وسماع أصوات أولئك الزاعقين، أو ينشرح لها صدر السياح الكرام الوافدين إلى لبنان من الدول الشقيقة والصديقة كي يسمعوا هذا الزعيق ويتمتعوا به مطمئنين إلى أن القهاوي والمطاعم في لبنان لا يضبطها نظام ولا يزجرها أمن ولا يفسد راحة روادها قانون.
وزاد من “بهجة” تلك الأصوات المقلقة المقرفة المزعجة، ونحن على شرفة صديقنا الفنان الكبير، ما طالعنا به صاحب “ذوق رفيع” في الحي المقابل، من أسهم نارية ذات صوت راعد ملأ الليل وتردد في الوديان تحتنا والجبال أمامنا، بعيدها والقريب، ابتهاجاً بمناسبة ما، أو احتفاءً بشخص ما، أو فرحة غريزية بكسر صمت الليل اللبناني الحالم وتجريده بأصوات انفجار صواريخ الأسهم النارية، بعد منتصف الليل بنصف ساعة، دون اعتبار الأطفال الهانئين في نومهم، أو الناس النيام، أو الساهرين على شرفات منازلهم الصيفية مستمتعين بهدوء الليل اللبناني وجمال العتمة اللبنانية المنشلحة شالاً شفافاً رقراقاً على التلال والجبال.
طبعاً لم يكن “طبيعياً” (وهل نحن في بلد “طبيعي”، كل ما يجري فيه “طبيعي”؟) أن يمسك الفنان المضيف سماعة الهاتف ويتصل بأقرب مركز للشرطة (كما يفعل الناس في بلدان الناس حيث الناس …. ناس). فهو مدرك سلفاً أنه لن يلقى في المخفر إلا جواباً يزيده غيظاً وقهراً، لأن الشرطة ليس في استطاعتها أن تتناسل عدة وعدداً وعديداً كي توقف منطقة جبلية لبنانية كاملة تزعق فيها أصوات صيصان المطاعم وقبابيط القهاوي، وتوزع زعيقها على الأحياء المجاورة لتلك المطاعم والقهاوي (كيف تعطى رخصة لمطعم في حي سكني ثم يروح المطعم يزعج سكان الحي بزعيقه ودخان مشاويه؟). كما لم يكن “طبيعياً” كذلك أن يتصل مضيفنا الفنان الكبير بالشرطة كي يذهب رجالها إلى البيت الذي انطلقت منه صواريخ الأسهم النارية، لأن رجل الشرطة قد يفاجأ بأنه بيت واحد من “بيت بو سياسة”، أو ممن يحميهم “بيت بو سياسة”، أو ممن لم يدخل جابي الكهرباء بيتهم منذ أعوام، لأن فاتورة الكهرباء لا تعرف عنوانهم، أو ربما يكون بيت أحد الوقحين الذين لا يحتاجون إلى ترخيص لإزعاج الناس.
نريده بلداً سياحياً؟ قبل أن نتغزّل بالصنوبرة والسماء الزرقاء والهواء العليل والمناخ اللطيف، فلنعمد إلى إعادة تأهيل شعبنا بتربية مدنية سلوكية أخلاقية، ليست طبعاً من شأن الدولة، لكن شأن الدولة أن تضبط بالنظام الصارم وقاحة المخالفين، وأن تضع سقفاً فوق الجميع ليس فيه صيف وشتاء على سطح أحد، فلا تعود خيمة فوق رأس أحد، بعدما أصبحنا، مع الأسف، بلداً فيه خيام كثيرة، ولم يعد فيه… رؤوس.