الخميس 23 كانون الأول 1999
– 128 – واشنطن
المذياع في مطار واشنطن يكرر كل أربع دقائق تسجيلاً لصوت مذيعة ينقل إلى الحشود فيه أنه “مطار نقي نظيف صحي لأن التدخين ممنوع في جميع أروقته على الإطلاق”، ويحذر من التدخين في الحمامات تحت طائلة الغرامة المالية القاسية.
وفي الطائرة بين باريس وواشنطن، كان أول إعلان سمعناه أن التدخين ممنوع طوال الرحلة، بعدما كان في الرحلة من بيروت إلى باريس مسموحاً في الأماكن الخاصة بالمدخنين.
وفي جميع قاعات المؤتمر الدولي الأول حول جبران (جامعة ميريلاند)، كان الجو نقياً خالياً من وباء الدخان المحروق، حتى إذا انتهت ندوة الجلسة، هرع المدخنون منسحبين مهرولين إلى الهواء الطلق، خارج القاعات والصالات والأروقة والغرف، بعيداً، بعيداً، كي يمجوا سموم سكائرهم وينفخوها في الهواء الطلق فلا تؤذي الناس في الداخل.
في الولايات المتحدة جميعها، بات الأمر محسوماً: التدخين ممنوع داخل كل المؤسسات العامة، تحت طائلة الغرامة المرتفعة. وهو كذلك ممنوع على متن جميع الطائرات في الرحلات الجوية الداخلية كلها ضمن الولايات المتحدة.
وكذلك المطاعم، انتفت في أكثريتها الزوايا المخصصة للمدخنين وتلك التي لغير المدخنين، وباتت المطاعم نظيفة نقية من سموم السكائر التي تتغلغل في الأطعمة نيكوتيناً يسمم فيتامين الطعام.
وفي معظم الولايات المتحدة غابت اللوحات الإعلانية الكبرى أو تلك المضاءة على سطوح البنايات أو حياطانها العالية معلنة عن التدخين ومغريات التدخين.
وفي أكثر سيارات الأميركيين، باتت منافض السكائر مركناً لسلك شحن بطارية الخليوي، أو قطعة نظيفة مغلقة، لأنهم يرمون الزبالة في أكياس خاصة لا في منفة السكائر.
في هذا الجو النقي من سموم النيكوتين يتكوم المدخنون في الزوايا المتلطية خلف الأماكن المحظورة، يدخنون كمن يرتكبون عملاً شنيعاً، فيما المارة حولهم أو أمامهم أو حتى وهم يرونهم من بعيد، ينظرون إليهم شزراً أو شفقة أو ازدراء، وفي مؤخرة الطائرة (بين بيروت وباريس) رأيتهم يتكدسون كي يمجوا سكائرهم كالتلامذة الذين يدخنون سراً في حمامات المدرسة، أو كالمساجين المكدسين فوق بعضهم البعض في الشاحنة التي تقلهم إلى السجن، أو كالمرتكبين غثماً على غفلة من عيون الناس، أو كالمقترفين عملاً ممنوعاً ويخجلون به أمام الآخرين.
كل هذا الخزي والتلطي والتستر، من أجل التمتع… بسموم سيكارة؟