30: سُميّة بعلبكي مُعادلة ردّت الذوق الهارب

الأربعاء 21 كانون الثاني 1998
– 30 –
… وإنها فعلاً تغنّي “عكس التيار”.
في زمن هجّ معه الذوق الفني إلى مجاهل الحياء بعدما اجتاحتنا موجة طرطقة الصحون باسم التلحين، وحرتقة الطناجر باسم التوزيع، وقرقعة السكاكين على صحون البازلاء والفول باسم الفناء الشعبي وإرضاء ذوق “الجمهور الحبيب”، لا شكّ أن غناءها كما طالعتنا به في مسرح المدينة (ليلة نادي ليونز بيروت متروبوليتان)، كان غناء “عكس التيار”، وأكثر: “عكس السير”.
سُمية بعلبكي، بحضورها المهذّب الهادئ، بجلستها الأنثوية والسلطوية معاً، بصوتها النقيّ الصادق والمثقف، بأدائها الأكاديمي العالي المستوى المختار عندها من قلب الجمهور المتعطش إلى الأصالة، أحيت ليلة لم نكن نستحق أن ننتظر أمسيات مسرح المدينة الرمضانية كي نتلقاها.
بسلاسة نقية، وفي سماع رهيف مرّ أمامنا برنامج جمع الشيخ أمام وعمر الزعني (“شانسونييه” ذلك الزمان، الخفيف الدم من غير ثقالة الاتكاء على الطقم السياسي) إلى سيد درويش إلى عبد الوهاب إلى أم كلثوم، فتفاعل الجمهور مع “أراك عصي الدمع” كما مع “جارة الوادي”، ومع “بيروت” كما مع “الحلوَه دي” و”رباعيات الخيام”، في سهرة من فصل واحد طويل بدون استراحة، مرّ قصيراً لكثرة ما انزلق الوقت مُمتعاً على أوتار صوت سُميّة بعلبكي، وأوتار عود نبيه الخطيب (قائد الأوركسترا المميز)، وأوتار أنامل ضابط إيقاع موزون.
هذا الغناء التراثي، على أصالته النادرة والدقة في اختيار مقطوعاته كي تجيء من داخل الإحساس الشعبي ولو هي من خارج العصر، يظل حمايتنا من هجمة الغول الأرعن، غول الأغنيات التي لا تراعي الكلمة ولا تهتم للحن ولا تتشدد في الغناء، الأغنيات التي باتت من ضمن ما يطلبه رواد المطاعم مع البيض والملوخية والفراريج، حتَّى يغدو البرنامج الفني ثانوياً إزاء نهم جمهور إلى الأكل، غير آبه لما على المسرح من برنامج يقدمه غالباً صيصان المطاعم وقبابيط القهاوي، على “وقع” الملاعق والسكاكين، وعلى إيقاع مضغ الطاعم وكركرة الأركيلة وشرق فنجان القهوة، أو توقيع الرقص على حلبة تعج بالراقصين أقداماً فوضوية أياً يكن اللحن المعزوف وأياً يكن الصوت المؤدى، والسلام عليكم ورحمة الفن من المغني أو المغنية وما يقوله كلام سخيف ويرندحه لحن أسخف.
عكس التيار، بلى، كانت سُمية بعلبكي (القاطفة جوائز كبرى في مهرجانات كبرى) على ما تتمتع به من صوت ممتلئ مطواع جميل جداً، وأداء ثقيف، وموهبة مميزة في التطريب والعرب، تفاعل معها جمهورها لا انطراباً درويشياً، بل تَمتعاً بطاقة صوتية وأدائية وجمالية، زادتها أكاديمية نبيه الخطيب ضبطاً وتأصيلاً، فخرج لنا برنامج أعادنا إلى ليالي الأنس في… دنيا الغناء الأصيل.
تلفزيوناتنا التي “تغتال” الذوق الفني والجمالي والثقافي عند ملايين الناس، ستبقى ساقطة البرامج والمستوى، حتَّى تعيدنا إلى برامج فنية براء من تفاهة هذا “التيار السائد” الذي يهرع إليه جمهور منخرج بتفاهات “تلافيزنا” الأرضية والفضائية، فتكون فعلاً، في هذا الزمن الأُمِّي، برامج… “عكس التيار”.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*