27: فؤاد سليمان

السبت 20 كانون الأول 1997
– 27 –
هذا الأسبوع (14 الجاري): مرّت السادسة والأربعون لغياب فؤاد سليمان.
غياب الذي “بعثر أعصابه بجموح وأناقة، بجنون الخائف من الموت، وبشوق الطالع من القبر” (أنسي الحاج، في مقدمة “القناديل الحمراء”).
غياب الذي كان من آخر ما كتب: “بعد، يا أختي، حكايات لم تحكها حروف في قلمي. أي حروف تجرؤ أن تقول يا أختي حكايات الجبل عندنا”؟
غياب الذي كتب إلى وليد تويني قبل أن يسلم للروح: “مشيت إلى الغرفة نمرو 314، أجر ورائي خيبتي: عجيب ألا يعرفني أحد في هذا المستشفى… ما أدري كم أنا باق في الغرفة نمرو 314، ولا أدري ما عساهم يفعلون بي. حينما تمرون صوبنا، اسألوا عن صاحب الغرفة رقم 314، فهو مشهور هنا أكثر من تموز”.
لا أعرف، في أدبنا اللبناني- عدا الياس أبو شبكة- شاعراً أكثر رقة وأكثر بركاناً من فؤاد سليمان.
كأنما لا على النبض عاش، بل على صهيل العواصف في صدره، وعلى مسحة الجمال اكتساها قلمه، فكأنما قلمه انسكب من زنبق ونار.
كالومض مرّ على الساحة الأدبية عندنا، ويوم غاب (وهو في التاسعة والثلاثين) ترك في العواصف بصمة، وفي الرياحين أخرى، وفي الكلمة المسلوخة من قلب الآخ وقلب الآه، ومضة لا تهرم ولا تشيب، بل تبقى صبية تنتقل من جيل إلى جيل، وكل جيل يحسها مكتوبة له، ولأولاده من بعده.
موجع فؤاد سليمان في رهافته الشاعرة. ومتعب في كمية الجمال التي شحن بها كلماته الطالعة من قمة إلى شمس الحقول في الكورة.
بأعصابه كتب، لا بقلمه. وكان يبحث دوماً عن الساعة الخامسة والشعرين: يكتب، ينقح، يدرس، يصحح فروض الطلاب، يحاضر، يشرف على تحرير “صوت المرأة”، يشارك في احتفالات وندوات، ولا يغيب عن قرائه في “النهار”، يكتب لهم (مجاناً، طبعاً) صياح كل يوم، فلا يطع النهار إلا و”تموز” في صدر “النهار”،
وظلّ يرهق صحته، سهراً وكتابة (معظمها مجاني) وتدريساً وتعباً وتعباً وتعباً، هو الناحل مثل مشروع مرض دائم، حتَّى داهمه المرض وطرحه في الفراش الوجيع، فاستسلم وانصاع، يتردد في قلبه صوت أخته (بقلمه): “كأنك تشد حروفك إلى قلبك، يا صغيري، أو تشد قلبك إلى حروفك. فمن أين تسلخ بعد اليوم حروفك وقد سلخت قلبك من حروفك؟ دار قلبك يا صغيرنا كلّنا، دار قلبك يا صغيري”.
ولكنه لم يدار قلبه. ظلّ يجهده حتى انهار، وقبل أن ينهار بساعات، كتب: “لا تنطفئ يا قنديل بيتنا الصغير، يا الذي انطفأت النجوم ولم ينطفئ. حكاية الليل الطويل أنت، يا قنديلنا الأحمر الصغير”.
وأغمض عينيه إلى الأبد، وأخذ معه الخوف على القنديل الأحمر السهران عند مطل درب القمر.
غاب وهو لا يدري أن ارتعاشة قنديله الأحمر في وجه الريح، غاصت في قلوبنا لتمنحنا ارتعاشة الحياة، ولتمنح أدبنا اللبناني فجر كيف يكون، في عمقه الأبداعي البكر، أدب الحياة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*