تايتانِك لبنان بين القُرصان والقُبطان (2 من 2)
 “أَزرار” الحلقة 1254
“النهار” السبت 31 كانون الأول 2022

قبل 100 عام كان لــ”التايتانِك” قبطانٌ واحد تَحَوَّل بإِهماله إِلى قرصان دمَّرها. واليوم في لبنان أَكثرُ من قبطان تحوَّلوا بإِهمالهم قراصنةً دمَّروه، ولا يزالون يوغلون في إِنهاك شعبه واقتصاده ومجتمعه. وإِذا العالَم عادةً يساعدُ بلدًا عبر التعاطي مع رأْس السلطة فيه، فكيف يتعاطى العالَم مع ثُعبانٍ مُتعدِّد الرؤُوس، وفي كل رأْس سُمٌّ مُضْمَرٌ بكَيدية شخصانية؟

قبل 100 عام اصطدمَت “التايتانِك” بجبل الجليد لأَن القبطان غَفَلَ عن قيادتها إِلى الوُجهة السليمة، واليوم في لبنان أَكثَر من قبطان دَعِــيٍّ يَشُدُّ بالسفينة إِلى ضمان وُجْهته الشريدة لا إِلى أَمان الوُجهة الوحيدة.

كان لبنان مريضًا بـ”الترُوْيْكا” فباتَ مريضًا بـ”التَسَلُّطُوْيْكا”. كانت فيه نعمةُ الديموقراطية فصعقَتْه لعنةُ “الفَسَادُوقْراطية” و”العُقْمُوقْراطية”، وشعبُه يئنُّ أَلَمًا ويأْسًا وخوفًا من مصير مجهول يؤَرِّق لياليه ويهدِّد نهاراته.

كان لبنان نموذجَ العرب يتمنَّون تَبَنّي نظامه في بلدانهم، فإِذا هو اليوم يتصدَّر لوائح أَكثر البلدان تعاسةً وسُوءَ إِدارة. لذلك في قلوب اللبنانيين اليوم يعتمر الغضب على مسؤُولين فاجرين سلبُوا الشعب هناءَته وما زالوا رابضين على كراسيهم يُمعنون في نهش الدولة وتجاذُبها وتقاسمها وتفتيتها كما دولةُ الأَندلس عند احتضار عهد ملوك الطوائف.

كان لبنان كما صفا جوهرُه للبابا يوحنا بولس الثاني فأَعلن في الإِرشاد الرسولي (1997): “لبنان أَكثر من وطن، إِنّه رسالة حريّة، ونموذجٌ في التعدُّديّة للشرق وللغرب”، وكان هذا الجوهر ذاته في فكْر الإِمام موسى الصدر لدى قولته الشهيرة: “لبنانُنا أَرضُ الله والإِنسان”… “إِذا سقطَت تجربة لبنان سوف تُظْلم الحضارة الإِنسانية لمدة 50 عامًا على الأَقل، لذا نقول إِن لبنان في هذه الفترة ضرورةٌ حضاريةٌ أَكثر من قبل” (لقاؤُه في المجلس الإِسلامي الشيعي الأَعلى – الحازمية مع وفد نقابة المحررين في 17 كانون الثاني 1977، وصدر في “النهار” صباح 18 كانون الثاني 1977).

أَذكُر هذا الأَعلاه لا لأُكرِّر ولا لأَندب ولا لأَتحسَّر بل بالعكس تمامًا: أَذْكُره لأَستذكر وأُذَكِّر بأَن قوة لبنان الوطن هي في جوهره وهُويته ورسالته الحضارية الفريدة. وإِذا دولتُه انهارت بقضْم ناهشيها، فلبنان الوطن الرساليّ لم ينهَر ولا ينهار ولن ينهار، وسوف ينتفض على جلَّاديه لأَن فيه قوةً ذاتية عظمى، بها وحدها سيقوم شعبه واعيًا تشخيصَ الواقع، مدركًا جوهرَ وطنه الذي يتغافل عنه ساسةُ دولته، لينتفض عليهم مهما كانوا وأَيًّا كانوا وأَنى كانوا، لأَنهم جعلوا لبنان ما هو عليه.

يعرف أَهلنا أَن هذا اللبنان ليس لبنانَهم الذي عرفوه ونشأُوا عليه وتعلَّموا عنه. ويعرف أَهلنا أَن التدَيُّن العاقل غيرُ التَطيُّف القاتل. ويعرفون أَن الظلام فارغٌ من الظل وأَنَّ شمس لبنان ستعود توزِّع ظلالها على مَن يستاهلون. وَمن يستاهلون هم الذين يحبون لبنان إِرادةً وطنية لا طائفية ولا فئوية، ويعرفون أَنَّ الخلاص لن يكون مع هؤُلاء الجلَّادين، بل سيأْتي من عقْل يَعقِل كيف يُعيد إِلى معنى لبنان روحه وهويته ورسالته نموذجًا ومثالَ نُهوض.

وسوف يرجع لبنان، مؤْمنين بـرجوعه، بنا وفينا ولنا وإِلينا، فنلمح مستقبلَ أَجياله الطالعة نبْضًا نقيًّا من قلب هذا الإِيمان.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib