هنري زغيب
في الحلقة الأُولى من هذه الثلاثية، عرضْتُ للظروف التاريخية التي وُلِد فيها خطُّ السكة الحديدية في لبنان، وما كان له من تاْثير كبير على الوضع الاقتصادي، بعدما تقلَّص وقْت “السفَر” بين بيروت ودمشق من ثلاثة أَيام إِلى 9 ساعات، وكيف تحوَّلَت المحطة الأُمّ في مار مخايل من تأْسيسها سنة 1895 إِلى مكان مهجور تجثُم فيه قاطرات ومقطورات بسبب الحرب في لبنان (1975).
في هذه الحلقة أُكمل متابعة الخط الحديدي بين المحطة الأُولى في فرن الشباك صُعُدًا إِلى ضهر البيدر.
من الحدَث إِلى بعبدا
بعد المحطة الأُم في مار مخايل والتالية في فرن الشباك، نصلُ إِلى محطة الحدَث (حدَث بيروت) في ضاحية العاصمة، عند نحو 9 كلم جنوبًا من المحطة الأُم (مار مخايل). هنا تبدأُ السكة الحديدية بعودة الظهور في الطريق، تقريبًا بدون تقطُّع، حتى محطة بعبدا التي تُشرف من علٍ على بيروت وبحرها الفيروزي. ومنها تبدأُ الطريق بالصعود تدريجًا 25% (نحو 12 درجة اعتلاءً) حيث تربض اليوم قاطرة عتيقة (من صنع معمل القطارات السويسري الشهير في مدينة وِنْتِرثُور) جاثمةً عند مطلع خط ثنائي يتخلَّله الخطُّ المسنَّن الضروري بينهما استعدادًا لبداية الصعود الصعب إِلى المناطق الجبلية.
فيما قدَّمت سويسرا خبرتها الصناعية في تصميم القطارات وبنائها، قدَّمت فرنسا خبرتها في تصميم المحطات وبنائها. وفيما معظم المحطات باتت اليوم مهدَّمة أَو خَرِبة أَو متروكة منسية، تحوَّل بعضُها الآخر مراكز رسمية للدولة، أَو بيوتًا لسائقي القطار العاطلين عن العمل، كما في محطَّتَي بعبدا و”الجمهور” مباشرةً بعد محطة الحدَث. ويكون لهذه السكنى أَن تَحفظ هذه الأَبنية التاريخية ولو بالحد الأَدنى من الصيانة.
شْوِيْت – عاريَّا – عاليه
ثم… نصل إِلى محطة شْوِيْتْ عاريَّا التي عانى بناؤُها من الإِهمال كرفيقاتها، لكن موقعها يبقى مميَّزًا، خصوصًا حين يتصاعد الضباب الأَبيض فيلفُّ بناء تلك المحطة المكوَّمة وسط تلك الغابة الهادئة ليعطيها طابعًا رومنطيقيًّا جميلًا، كأَنما الحياة التي كانت تعجُّ بها تلك المحطة منذ عقود، إِنما غادرتْها موقَّتًا وستعود إِليها قريبًا.
بعد محطة شْوِيْتْ عاريَّا يبدأُ ممر الصعود ضيِّقًا بين الأَحياء السكنية وهو يُصَعِّد لاهثًا بالقطار. وبرع مهندسو السكَّة الحديدية بأَن جعلوا في هذه المحطة آلةَ تحويلٍ يغيِّر بها السائق سير القطار من خط مستقيم أِو انعطافي إِلى خط آخر من 75% أَو نحو 35 درجة انحناءً. بعدها يواصل القطار صعوده هكذا نحو 5 كلم حتى يبلغَ محطة عالَيه حين يعيد السائق مجدَّدًا تحويلَ القطار إِلى خط صاعد شبه مستقيم.
في عاليه، كلُّ ما يبقى اليوم من الخط الحديدي محطته ومضخَّتُها المائية. فالأَبنية غيرُ الشرعية والطرقات الأَسفَلْتية أَطاحت آثارَه، ولم يَعُد له من مؤَشِّر سوى أَشجار السرو المزروعة عادةً حدَّ المحطات. أَمَّا الخط الحديدي فمصيرُه كمصير معظم الخطوط الأُخرى في سائر لبنان: استولى عليه في زمن الحرب مَن اقتلعوه ليجعلُوا منه حواجزَ ومتاريس، أَو باعوه لقيمته الشرائية كقطع حديدية وازنة.
بحمدون – صوفر
من عاليه يواصل الخط مصعِّدًا إِلى بحمدون، ومنها يحافظ على سيره آمنًا في المعابر والمنعطفات لنحو 25 كلم بلوغًا إِلى عَلْوات ضهر البيدر ثم انحدارًا إِلى الناحية الغربية من سهل البقاع، وهذه لعلها المسافة الأَجمل مشهديًّا في الطريق.
في أَيام ذروة الخط الحديدي، طيلة سنوات، كان مصدرَ ازدهار للبلدات التي يمر بها، خصوصًا صيف عاليه وبحمدون، وتحديدًا صوفر وعين صوفر حيث بُنِيَ خصيصًا قرب محطة القطار “فندق صوفر الكبير”، أَحد أَجمل المعالِم السياحية الذي استقطَب السيَّاح من معظم العالم العربي.
في تلك البلدات غاب اليوم معظم الخط الحديدي ولم يبقَ منه سوى أَثَر طفيف لمعبَر مستوحد يَقصده الـمُشاة. من هنا إِمكان إِعادته إِلى “التشغيل القطاري” ولو فقط بين بحمدون وصوفر لغاية سياحية بحتة دون هدف السفر. كما يمكن إِنشاء اتجاهات سياحية له مع بلدات أُخرى في تلك المنطقة الجبلية الجميلة فيقصدها اللبنانيون والسياح بالقطار متمتعين بما على جانبَي الخط الحديدي من مناظر لبنانية طبيعية فريدة، ليكون القطار حافزًا سياحيًّا ومحرِّكًا دورةً اقتصادية مثمرة في بلدات عدَّة، يتوقَّف فيها السيَّاح ويترجَّلون دقائق من القطار، أَو ينتشرون في الطبيعة النقية الهواء إِلى جلسات بيئية رغيدة، أَو يتأَملونها من القطار وهو ينحدر بهم إِلى الخد الشرقي من جبل لبنان، في الربيع حين الأَزهار في عرس، أَو في الصيف حين المهرجاناتُ أَعراس متواصلة.
ضهر البيدر
من عين صوفر يُكمل الخط صعوده بين الأَشجار إلى ممر ضهر البيدر على علو 1500 متر، داخلًا في أَنفاق إِسمنتية مبنيَّة في أَربعينات القرن الماضي لحماية الخط الحديدي من كثافة الثلج في تلك البقعة الجبلية العالية. أَطول تلك: نفقٌ بِطول نحو 500 متر يمر تحت جبل هائل. كان القطار يخترق الثلج الكثيف، وقد يتوقَّف أَحيانًا في وسط النفق ما يُصَعِّب التنفُّس بسبب دخان القطار فيُضطر الركَّاب إِلى سد أَفواههم بقطَع قماشية رطبة. وما إِن يخرج القطار من النفق حتى يواصل الركَّاب مرحهم وزهْوهم حول الأرَكيلة والغناء وقرع الطبل والدربكَّة وسط تلال الثلج المكوَّمة حولهم عن جانبَي خط القطار تحت شمس الشتاء الدافئة. وقد يُكمل القطار (في حال كانت حمولته تجارية) جنوبًا إِلى الأُردن، أَو شمالًا إِلى تركيا.
بعد ضهر البيدر ينحدر القطار إِلى محطة المريجات التي، على عكس رفيقاتها، تمَّ ترميمُها، ولو جُزئيًّا، لتصوير فيلم سينمائي فيها. ويُكمل القطار نزولًا إِلى محطة جديتا-شتورة التي باتت هيكلًا حجريًّا أَجردَ عند منعطف “الأُوتوستراد العربي” الذي حُكيَ عنه الكثير إِنما… لم يتحقَّق بعد.
ماذا بعد شتورة؟
إِلى أَين يُكمل القطار حتى يتوقَّف في محطته الجبلية الأَخيرة؟
هذا ما سأَكشفهُ في الحلقة الثالثة والأَخيرة من هذه الثلاثية.
كلام الصُوَر:
- إِلى اليسار: محطة ضهر البيدر ناشطة. إِلى اليمين: المحطة مهجورة والخط الحديدي مسروق
- محطة شْوِيْت عاريَّا: مبنى متصدِّع في غابة حزينة
- غابَ القطار فتحوَّلَت المحطَّة بيتًا لسائق القطار
- يصعِّد القطار متمسِّكًا بالخطّ الأَوسط الـمُسَنَّن
- صوفر تحت الثلج: المحطة فارغة ومضخَّة الماء مُـجَلَّدة