بعدما استضافني “بيتُ الشعر” في أَبو ظبي قبل عشر سنوات (أَيار 2012) إِلى أُمسية شعرية تلوتُ فيها آخر قصائدي عهدئذٍ، اقترحَ عليَّ أَحدُ أَعضائه اصطحابي إِلى “متحف الشيخ زايد” مؤَسس الدولة. وهكذا كان: زرتُ برفقته المتحف وجُلْتُ على أَقسامٍ فيه تشهد على إِنجازات الرجل التاريخي موحِّد الإِمارات. وحين توقَّفتُ في الجناح المخصَّص للصُوَر الفوتوغرافية، أَقرأُ فيها مشاهدَ قديمةً من المنطقة، أَشار لي مرافقي إِلى صورة بينها تفرَّستُ فيها فلَم أَجِد سوى كثبان رمل ورجال بالعباءة البيضاء بين الخيام. لم يَطُل تفرُّسي فيها حتى بادرَني المرافق: “هذا المكان الذي تراه، هو الذي تقِف فيه الآن”. لفتَني هذا القول لأَنني كنتُ في حيٍّ تتنافس فيه الأَبراج العالية حول شوارعَ حديثةٍ وأَشجارٍ باسمةٍ وحركةٍ ناشطةٍ هي بنت العصر استشرافًا، فيما أَمامي صورةٌ من خمسينات القرن الماضي تُشير إِلى بقعة صحراوية عربية.
الشاهدُ من تَذَكُّري تلك الزيارة: تَأَمُّلُ القفزة المدَنية العصرية التي حقَّقَتْها دولة الإِمارات في سبعة عقود، مقارَنَةً بين بيروت الخمسينات وبيروت اليوم، من حيث الدورُ والحضورُ والرسالة. ففيما بيروتُ الخمسينات كانت مطمحَ العرب، وخليجيِّيهم تحديدًا، يقصدونها طلَّابًا في جامعاتها، أَو فنانين في مسارحها أَو صالات عرضها، وشعراءَ وكتَّابًا في دُور نشْرها، وتنافُسًا على منابرها، وصيفًا في قرًى ومُدُنٍ وبلداتٍ ومرابعَ في جبال لبنان، ها هي ذي بعد سبعةِ عقودٍ ترزح تحت خيانات سياسيين حطَّموا صورتَها في عيون العرَب وشوَّهوا سمعة لبنان في عيون العالم، فيما الخليجُ اليوم فورةُ نهضة عمرانية واقتصادية وثقافية تُنافس كبريات دُول الغرب.
أَقول هذا، لا لأَحصُر الأَمر بالحجَر والبشَر ومظاهر الحضَر، بل لأُؤَكد أَنَّ ما لَمَستُهُ في أَبو ظبي قبل سنوات، وفي الرياض قبل أَشهر، هو إِرادة الحاكم على تطوير بلده شعبًا ودولةً ووطنًا، فلا يمرُّ يومٌ إِلَّا ويفكِّر فيه رجلُ الدولة المسؤُولُ كيف يُطَوِّر أَحوالَ شعبه وظروفَ بلاده في كل قطاع، مقابلَ ما شهدَه لبنان من تقهقرٍ فاجعٍ بين خمسين سنةً مضت وسنوات قَهر تَمضي اليوم، بسبب سياسيين منشغلين بمصالحهم وانتخاباتهم ومستقبل نسْلهم وأَحوال زَعاماتهم.
بعدما كان لبنانُ رئةً يتنفَّس منها العرب والخليجيون خصوصًا، بات شحَّادًا على أَبواب العرب والخليجيين، لأَنه يختنق بدُخان سياسييه المسموم القاتل.
وبعدما كان لبنانُ نموذَج العرب، صار وكْر سياسيين قاصرين، جهلًا أَو عَمالةً، عن حُكْم بلادٍ تتهاوى وهُم عنها لاهون بحكْمهم الشيطاني العاهر.
أَما القول “كما تكُونون يُوَلَّى عليكم” فهو جائر قاهر، لأَن نصفَ شعبِ لبنان لم ينتخِب هذه الطُغمةَ الـمُقْرفة. ويـأْمل هذا النصفُ الـمُقاطع أَن يعي النصفُ الآخر غَباءَ ما اقترفَت اختياراته السياسية فيعاقِبَ من أَتى بهم، كي لا يُعيدَهم مجدَّدًا إِلى المقصلة التي انغشَّ بأَنها ستُحاكم الفاسدين، فإِذا هي شَفْرة مسمومةٌ مسنونةٌ على رقاب جميع اللبنانيين.
هـنـري زغـيـب