مغامرة!! بل ليست أَقلّ. أَجملُ المغامرات: تلك الثقافية، وأَنبَلُها تلك الحاصلةُ في زمنٍ صعب يسعى فيه المواطنون إِلى الرغيف قبل الكتاب.
ويكون لها، هذه المغامرة، ثلاثةُ فرسان شجعان: جَوَاد عدرَه ناشرًا وعارضًا (في متحفِه التُحفَة: “نابو” – الهِري، لبنان الشمالي)، الباحث بدر الحاج جامعًا ومُوَثِّقًا فوتوغرافيًّا، والسفير سمير مبارك حافظًا موسوعيًّا في مكتبةٍ خاصةٍ ذاتِ آلاف.
المغامرةُ الأَقصِدُها هنا، كتاب: “بيروت1840-1918، رسْم بصَري وصْفي”. التأْليف جمعًا ونُصوصًا وصُوَرًا فوتوغرافية وتعليقات بتوقيع بدر الحاج وسمير مبارك. النشْر لدى مؤَسسة “كُتُب” في طباعة فخمة ممتازة جعلَت الوثائق العتيقة والخرائط النادرة والصُوَر القديمة (المجموع 618) تَخرُج من عتْقها إِلى نور جديد. الكتاب (حجمٌ موسوعيٌّ كبيرٌ في علبة مُتْقَنة) من جزءَين: الأَول في 376 صفحة من النصوص والرسُوم والخرائط والوثائق النادرة (مقدِّمة من 6 فصول وسرد تاريخي في 11 فصلًا)، والآخَر في 272 صفحة للصُوَر والتعليقات (15 فصلًا). ويرفد ثروةَ الكتاب بجزءَيه إِسهامُ مؤَسس/رئيس جمعية “تراثنا بيروت” سهيل منيمنة، وهو الخبير البيروتي العريق، في شرح الأَماكن والمواقع وفي قراءة الصُوَر القديمة الثمينة التي معظمُها من مجموعة متحف “نابو”.
إِنها بيروت، بيروتُنا جميعًا، بيروتُ اللؤْلؤَة الفريدة، تستاهل هذا العمل الموسوعي الضخم، التأْريخي بصريًّا طالعًا من ذخائر اكتَنَزَ بعضَها واشترى الباقي الثنائيُّ الحاج – مبارك بهوَسِهما التوثيقي العالي الخبرة.
لِـمَ هذان التاريخان؟ 1840: لأَن أَقدم صورة فوتوغرافية لبيروت كانت سنة 1840 مأْخوذةً من “دار الولاية” (سراي الأَمير عسَّاف)، تَظهر فيها مئْذنةُ مسجد السراي، وأَجزاء من بقايا قصر أَمير لبنان فخرالدين العظيم، وملامح البُرج قبالة الجهة الجنوبية الشرقية. التقطَها في 30 كانون الثاني المصوِّر الفرنسي الرحَّالة فردريك فيسْكيه (1806-1893) إِبَّان رحلته إِلى مصر والأَراضي المقدَّسة مرورًا ببيروت. والتاريخ الآخَر: 1918 هو انسحاب القوات العثمانية ودخول لبنان في عهد الانتداب.
من ذخائر الكتاب: لوحتان مائيتان لبيروت سنة 1845بريشة الدبلوماسي البلجيكي بنجامان ماري (1792-1846) شاهدتان في عمل فني رائع على معالِـمَ من بيروت اندثرت بعدها فبقيَت اللوحتان ناطقتَين بجمالها أَبراجًا ومآذنَ وأَبوابًا ومزارعَ وخاناتٍ ومقاهيَ وسُورًا. وفي النص الشارح أَنَّ الشاعر الفرنسي لامرتين (1790-1869) خرج من مكان إِقامته في حي مار مارون (الأَشرفية – 1832) وصعد إِلى تلة مار متر والتفَت إِلى بيروت فَبَدَت هادئة هانئة جميلة حتى إِذا عاد إِلى غرفته كتَب: ” في طفولتي كثيرًا ما تخيَّلْتُ الجنَّة، وهاني رأَيتُها” (كتابه “رحلة إِلى الشرق”). وفي مجلَّد “الأَرض والكتاب” (1859) للرحَّالة وليم ماك لور طومسون (1806-1894) كتَب: “لا ريشةَ ولا قلمَ يمكن أَن يصِف جمال بيروت”.
سنة 1840 انتهى هدم السُور الذي كان يزنِّر بيروت، وفي أَحدث إِحداثياته أَنه كان يمتدُّ من جانب ساحة رياض الصلح، شرقًا قبالة كاتدرائية مار جرجس المارونية، امتدادًا حتى مسجد محمد الأَمين مرورًا بمبنى “النهار” وصولًا عند التل الأَثري نحو البحر.
هي ذي بيروت: من قرية صغيرة وادعة شبه زراعية على خصر المتوسط يمرُّ بها الحجَّاج إِلى الأَراضي المقدسة، راح مرفأُها يستقطب ما جعلها تتوسَّع تدريجًا وتتمدَّد خارج سُورها المحيط وأَبوابها السبعة حتى باتت مدينة كوزموبوليتية تشع منارتُها ثقافةً وعلومًا وفنونًا وآدابًا فتصبح لؤْلؤَة الشرق ومرنى أَعلامه، وتَغوى بغناها التاريخي منذ الفينيقيين.
كلُّ هذا الفيض من الثروة التاريخية والثقافية يَزخر بها هذا الكتاب المصوَّر النادر، وبعضُ صُوَره معروضة في متحف “نابو” حتى أَيار 2023. وبين المعرض والكتاب تَغوى بيروت بهويتها المفردة التي لا تُجارى، وتستاهل ما في ذينِك الكتاب والمعرض من جُرأَة ثَبْت وتَبيان.
أَلم أَبدأْ مقالي بأَنها “مغامرة”؟
هـنـري زغـيـب