بين أَسوإِ ما يصاب به الفنُّ الكبير أَن يتنطَّح له أُمِّـــيُّــون من عامَّة الناس أَو مُغْرضون من النُقَّاد، يَروحون بكل جهل أَو أَذى يَرَون إِليه من منظار صغير يجعل الفن الكبير سلعةً تُدار بين الناس لا قيمةَ لها ولا حُرمة.
من ذَيِنك الجهل والأَذى: ما يقال دومًا عن الأَخوين رحباني إِنهما “صَوَّرا لنا لبنان حلْمًا جميلًا وبلدًا مثاليًّا لكن الأَحداث الجارية فيه كذَّبَت زعمهما فانهار، وتَبَيَّن أَنَّ ما بَشَّرا به هو وهْم كبير وكذْبة كبرى”.
أُسارع إِلى اختصار أَنَّ هؤُلاء الطفيليين يخْلطون بكل غباء بين لبنان الوطن ولبنان الدولة. فالذي بناه عاصي ومنصور في ذاكرة أَجيالنا هو لبنان الوطن الخالد الدائم أَعلى وأَقوى وأَبقى، وفوق كل ما يجري تحت من تفاهات “بيت بو سياسة” ومشاحناتهم وعنعناتهم ويوضاسياتهم الـمُدمِّرة. والذي انهار – في زعم أُولئك الأُمِّــيِّــين – هو لبنان الدولة الكرتونية الهشة وليس لبنان الوطن المتواصل في الزمان بإِبداع عباقرته فكْرًا وفنًا وعلومًا وأَدبًا، ما يجعله ساطعًا على أَرضه وفي محيطه وفي العالم.
فمَن ذا لا يتمنَّى أَن يكون وطنه مقاومًا كلَّ احتلال على صورة مدلج وابنته “غربة” في “جبال الصوان”؟ ومَن ليس يكبُر بوطنه كما حين “زاد الخير” تهدِّد الملك غَيبُون بهجرة الشعب كي يبقى ملِكًا “على البيوت الفاضية وخيالات الشجر” (“ناطورة المفاتيح”)؟ ومَن ليس يحلم أَن يكون وطنُه متصالحًا كما أَهل القاطع وأَهل “جسر القمر”؟ ومَن – في هذه الأَيام السياسية التافهة – لا يصلِّي لسالم الشهيد “النايم ع تلِّه بتضل تصلِّي… بقلبو الإِيمان ومغطَّى بْعلَم لبنان” (“عودة العسكر”)؟ ومَن لا يجد انتقامه من دولته الكذَّابة في قول الملك “داجور” عن مملكته بأَنها “دولة عايمة ع الكذب” (“هالة والملك”)؟ ومَن لا يعتزُّ مع فخرالدين حين جيْءَ إِليه بالوالي العثماني مصطفى باشا مهزومًا أَمامه بعد انتصار اللبنانيين في معركة عنجر فَبادره الأَمير العظيم: “يا باشا إِنتَ حُرّ… بدَّك تصادقنا؟ حُرّ… بْترجَع بتعادينا؟ حُرّ… لكنْ نحنا وطننا بدو يبقى حُرّ” (مسرحية “فخر الدين”)؟ ومَن لا يوافق “مَلْهب المهرِّب” في صرخته المكلومة: “الولاد بَدُّن يكبَروا ما فيهُن ينطروا تَ يصير فيه حكومه” (“يعيش يعيش”)؟ ومَن ليست تقهره ممارسات سياسيي الدولة الذين حوَّلوا “لبنان الأَخضر” إِلى بؤْرة للأَفاعي والثعالب والقراصنة والمرتزقة، محلِّيِّين وخارجيين، فيما المخْلصون توَّاقون لاستعادة وطنهم الطيِّب النقيّ الهادئ الهانئ كي يستظلُّوه بفرح ناذرين: “بِفقْرَك بحبَّك، وبِعزَّك بحبَّك، وإِذا نحنا تفرَّقنا بيجَمِّعنا حُبَّك… وحبِّه من ترابَك بكنوز الدني”؟ ومُهاجرونا المقهورون الذين قسرًا وقهرًا هجَروا لبنان الدولة لا لبنان الوطن، مَن منهم لا ينبُض في قلبه الحنين للعودة لا إِلى الدولة بل إِلى الوطن وهو يردد: “خِدني ازرَعني بأَرض لبنان… بالبيت يلِّي ناطر التلّه… إِفتح الباب وبَوِّس الحيطان وإِركع تحت أَحلى سما وصلِّي”؟
لن تكفيني زاويتي “أَزرار” في هذه “النهار” الغالية على قلبي، ولا جميع زوايا الصحف، كي أَستشهد بأَقوال من عاصي ومنصور حمَلَها صوتُ الخالدة فيروز إِلى كل الدنيا، رَسَـمَا لنا فيها لبنان الوطن كيف يكون، وكيف يجب أَن يعود مهما تَحَاقَرَ سياسيُّوه وتناهَشوا دولتَه مزارعَ لهم ولنَسْلهم فلن يستحقُّوا لبنان.
هي ذي ضرورة وعي اللبنانيين أَن الذي “انهار” ليس الوطن اللبناني الممتدّ إِشعاعه إِلى كل العالم، بل دولة هشَّة زائلة تدول مع عصاباتها كرنفاليةً ممتلئةً مهرِّجين ذوي أَقنعة، يخلط المتأَدلِـجون والمؤَدلَـجون بينها وبين الوطن المقدَّس الذي تاق إِليه عاصي ومنصور ورسَّخاه فينا، وتركا لنا بعد غيابهما عنه إِرثًا أَسطع من كلِّ حضور.
أَلا أَطال الزمنُ عمرَ غيابهما.
هـنـري زغـيـب