بين أَكثر الأَنواع الأَدبية رَواجًا: كتُب السيرة (البيوغرافيا)، لمتعة ما فيها من اكتشاف حنايا خاصة وشخصية قد لا يعرفها القراء من النص العادي، شعره أَو النثر.
وبين أَحبّ الحنايا في هذا النوع الأَدبي: كتُب السيرة الذاتية (الأُوتوبيوغرافيا)، على صعوبة ما فيها من تضييق المسافة والمساحة بين إِغراء “أَنا” الكاتب الشخصية، وسرد الحقيقة الموضوعية، لا الـمُتَخَيَّلَة، حين يكون النص مرآةَ الكاتب الذاتيةَ الحميمةَ (“سبعون” نعيمة و”أَيام” طه حسين نموذجًا). على أَن الأُوتوبيوغرافيا تصبح وُثقى، شخصيةً وموضوعيةً معًا، حين يُزوِّدها الكاتب بوثائق دامغة تؤَكد قَوْلته أَو تفصيله، فتكون عندها مزدوجةً: سيرة الكاتب ومسيرة عصره.
من هذا النوع العالي القيمة ورَدَني هذا الأُسبوع أَثران قيِّمان:
- “الخيار والقَدَر” للبروفسور ابرهيم نجار. هوذا كبير من لبنان يفتح سِفْره الغالي (734 صفحة حجمًا كبيرًا) ليرسم خارطةَ حياة لاخاليةً من مطالع كفاح ومقالع نجاح. لم يشأْهُ “تاريخًا” ولا “تأْريخًا” بل أَراده “كتاب مذكرات”، و”عرضًا شخصيًّا يلامس الرواية”. وأَوضح أَنه سلسلة “مشاهداتي وأَحداث رافقْتُها في مسار الالتزام الوطني”. وكم كبيرًا وراقيًا ونبيلًا كان الْتزامُه الوطني، مناضلًا ومحاميًا ووزيرًا، وفي كل مفصل من حياته الثرية منعطفٌ كثيفٌ أَنقذَتْه فيه شخصيتُه التي، بكل عجَب، بين الحزم والدماثة، في مراعاةٍ أَخلاقيةٍ “خصوصيةَ” بعضِ من ورَد ذكرهم في الكتاب. ومن خلال كثيف الذكريات، بدءًا بالطفولة فاليفاع وما تلاهما، خرَج إِلى الشمس بأُطروحة “الخيار” والصلاحيات الإِرادية (بين مساره القانوني ومراحل سنيِّه المثقَلة بالجنى المبارَك)، زاوَجَها بـ”القدَر” (“تَلاحُق أَحداثٍ وفق علاقة سببية”). وبتقديره أَن “القدَر نقيضُ الصدفة” ترك لنا فُسحةَ فرصةٍ غالية في كتاب بحجم “القَدَر” نتلقَّاه خارج “صدفة” البناء الوطيد: بناءِ وطنٍ نتعلَّم كيف نبنيه متينًا ساطعًا واثقَ المستقبل كما تَقَطَّرَ من قلَم ابرهيم نجار.
2.”أَيام الصفاء والضوضاء” للرئيس الدكتور غالب غانم. هوذا مسؤُول كبير يدلي بشهادته في محكمة الضمير (494 صفحة حجمًا كبيرًا – منشورات “دار سائر المشرق”). في دقة القلَم الدؤُوب مُطَرَّزًا بجماليا الكلمة، نسَج الأَديب الرئيس أُوتوبيوغرافياهُ بِـحِرَفية عالية، بدءًا من تدوين الوالدة يمامة (“مي” شاعر “العندليب” الغالية أُمّ جورج) تواريخَ الأُسرة “بخطِّها المتناسق” على إِحدى دفتَي خزانتها، إِلى النشْأَة في ظل الكبير “المعلِّم عبدالله” (الوالد الشاعر الرائد) وسْط إِخْوة شعراء وساطعين، في تلك البسكنتا المتوَّج صنِّينُها بكواكب الأَدب اللبناني، إِلى الدراسة في كوكب “الحكمة”، إِلى أَقواس المحاكم قاضيًا في بياض الضمير تحت الرُوب الأَسْوَد، إِلى رئاسة مجلس شُورى الدولة، إِلى رئاسة مجلس القضاء الأَعلى، إِلى رئاسة منظَّمة محاكم التمييز الفرنكوفونية، وبينها جميعًا وقفات منبرية بنبرة أَدبية من أَعلى ما يمكن أَن يطاله قلَم في يد أَديب متمكِّن. ويَرفدُ الرئيسُ المسؤُول صفحاتِه بوثائقَ تَنْقُل سِفْرَه، صفاءَهُ وضوضاءَه، من ذكريات إِلى شهادات، ومن مذكِّرات إِلى مفكِّرات، ما يجعله مرجعًا يعاد إِليه تاريخًا وتأْريخًا.
بعضُ الأُوتوبيوغرافْيَات شخصيٌّ لا يعني إِلَّا صاحبه وحفنة مريدين (إِذًا ما أَهميَّتُه؟)، وبعضها غيريٌّ يَروي حقْبة من سيرة صاحبه في مسيرة الوطن (وهنا أَهميَّتُه). في هذا الميزان بالذات يسطع “الخيار والقدَر” ورفيقُهُ “أَيامُ الصفاء والضوضاء”.
ليس نَصي هنا قراءةً مضمونَ هذين الكتابين الجليلَين بل إِضاءةٌ بسيطة عليهِمَا لهدف محدَّد: كيفية تأْريخ مرحلة راهنة دقيقة من تاريخ لبنان الحديث، يكتبُه رجُلان تبوَّآ ناصِعَين أَعلى المسؤُوليات بين قلَّةِ مَن أَسهموا بنصاعةٍ في صنع هذا التاريخ.
يَسْلَمُ هذان القَلَمان العلَمان.
هنري زغيب