ضروريةٌ، ثقافيًّا ووطنيًا، الندوةُ التي يعقدها بالفرنسية عن شارل قُرم “مركزُ التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU مساءَ الخميس المقبل 27 الجاري.
ذكرتُ “ثقافيًّا”، وذكرتُ “وطنيًّا”، وأَقصِدُهما معًا بالتوازي.
- ثقافيًّا: بما يمثِّل شارل قُرم من حضور أَدبيّ وشعريّ في مؤَلَّفاته العشرة، في أَربعة أَعداد مطبوعته “المجلة الفينيقية” (تموز، آب، أَيلول، ميلاد 1919)، وفي أُمسيات “الصداقات اللبنانية” أَسَّسها في مكتبته الخاصة سنة 1935 صالونًا أَدبيًّا وثقافيًّا ضَمَّ نخبةَ النخبة أَدبًا وشعرًا وعلومًا من أَعلام ثلاثينات القرن الماضي. وتأْتي هذا الأُسبوع ندوةُ “مركز التراث اللبناني” لتُعيدَ التذكير، ضرورةً، بهذا الشاعر اللبناني الفرنكوفوني الذي ينبغي أَن تكون له فسحةٌ واسعةٌ في ذاكرة أَبناء الجيل الجديد.
- وطنيًّا: بما يمثِّل شارل قُرم (1894-1963) من قيَم لبنانية خاصة وإِنسانية عامة، استقاها من حضارة لبنان في التاريخ. فقبْل 87 سنة في موناكو، مدعوًّا من “مؤْتمر الإِنسانية” سنة 1935، أَلقى محاضرة مطوَّلة عن علاقة لبنان بجوهر المؤْتمر جاء فيها: “منذ سحيق الزمان، يوم كان اللبنانيون يُدعَون بعدُ كنعانيين ففينيقيين، أَسسوا حضارة واسعة ليبرالية، ذات أُطُر كونية، حافظوا عليها، ودافعوا عنها، ووسَّعوها حتى تبنَّتْها شعوبٌ كبيرة لاحقة بل تماهت بها” (…) “وإِذا كانت الإِنسانيةُ فضيلةَ جمْع حجَّاج الفكر وإِكرامهم على اسم الحقيقة والعدالة والحب، فلبنان أَثبَت في التاريخ إِسهامه لا في تأْسيس الحضارة المتوسطية فقط بل في الحضارة الإِنسانية، ونشْر فضائلها على شعوب العالم”.
هل مَن يقول اليوم أَبلَغَ من هذا الكلام عن لبنان؟
وبعد أَشْهُر على انعقاد الجمعية العامة للأُونسكو في بيروت (1948) أَلقى شارل قُرم على منبر “الندوة اللبنانية” (7 حزيران 1949) محاضرة مطوَّلة أُخرى عنوانُها: “6000 سنة من عبقرية السلْم في خدمة الإِنسانية”، ومنها: “في هذه الزاوية القديمة من الشرق الأَدنى، بلدٌ صغيرٌ خلَّاق كان بوقائعه وأَفعاله رائدًا للإِنسانية، في مراحل عدة من تاريخه ولفترات طويلة من التاريخ، ونأْمل أَن يظلَّ مُتوِّجًا إِياها… هذا البلد الصغير الخلَّاق هو لبنان، منذ خمسين أَلف سنة ولا يزال”.
ولا يَــرَ القارئُ في هذا الرقم مبالغةً نظرية. فشارل قُرم في محاضرته مـرَّ على الزمن السحيق منذ إِنسان إِنطلياس الأَول، إِلى البيت الأَول من الحجارة المقصَّبة (في بيبلوس) زمَنَ كانت بُيوت مصر وبابل من أَجُرٍّ ولُبْن، فالبيت اللبناني ذي أَعمدة الحكمة السبعة، فالفينيقيين مكتشفي أَميركا، فَروح السلْم لدى الفينيقيين معاهداتٍ واتفاقات، فحريق صيدون ومقاومة صُور، وبطولة النساء الفينيقيات، والفلاسفة والأُدباء، والأَعلام اللبنانيين القُدامى فنونًا وعُلومًا، فبناء بعلبك نتاج عبقرية لبنانية قال عنها العالِم أَندريه غيغر: “لا أَكروبول أَثينا ولا كولوسيوم روما يمكن أَن يتشبَّها بعظمة بعلبك وجمال روعتها. إِنها من أَعظم الإِنجازات في التاريخ البشري”. ويعلِّق عليها شارل قُرم باعتزاز: “إِنها أَرض لبناننا الضئيلة ما زالت تختزن شهاداتٍ حيَّةً في وجه الشمس”.
هذا هو شارل قُرم الذي يجهله ردح كبير من اللبنانيين اليوم، فيما يجب أَن يكون منارةً يتلقَّفونها ليلْمسوا عمْقَ هويتهم، وضرورةَ مناعتهم، وعظمةَ انتمائهم إِلى وطنِ غيرِ عادي. لكنَّ القدَر في العصر الحديث بَلاهُ بأَهل سُلطة أَقزام تولَّوا حكْم دولةٍ تافهة لوطن غير عادي كان شارل قُرم في رائعته “الجبل الملهَم” (1934) قال عنه: “لَم يُعاينْ أَيُّ شاهدٍ في أَيِّ مكان من الأَرض بلدًا بهذا الاتضاع ولا قدَرًا بهذا الاتساع”. وربما هذا ما دفع المؤَرخ غبريال هانوتو (1853-1944) إِلى الجزْم: “إِنْ لم يكْن لبنان أَعلى قمَّة في الجغرافيا، فهو حتمًا من أَعلى قمَم التاريخ”.
رئيس الجمهورية الجديد، إِن لم يكن يعرف هذه الحقائق وسواها وانطلاقًا من لبنان شارل قرم، فلا يستاهل أَنْ يحكُم لبنان.
هـنـري زغـيـب