إِياكم والجبَل …كُرمى لريشَتِه
“أَزرار” – الحلقة 1241 – “النهار” – السبت 1 تشرين الأَول 2022

غالبًا ما أَتوقَّف في أَسفاري عند أَبنيةٍ عليها لافتةٌ خشبية أَو رخامية تُؤَرِّخ لسُكنى علَمٍ أَدبي أَو فني فيها، ترسيخًا حُضُورَ ذكرى العَلَم في وعي الأَجيال الجديدة، واستذكارًا هالةَ العلَم في ذاكرة وطنه.

تلك اللافتات إِجمالًا هي من عمل الدولة، حيثما الدولة مدركةٌ أَنَّ خلود الوطن من خلود مبدعيها لا سياسييها.

هذا ما لا أَجدُه في لبنان من عمل الدولة (حين كانت دولةً قبل أَن تنهار) بل من عمل الأَفراد الوارثين أَو المهتمين. فلولا لجنةُ جبران الوطنية لَمَا كان لنا متحف جبران في بشرّي، ولولا أَلبرت الريحاني (ودأْبُ أَمين أَلبرت الريحاني حاليًّا) لَمَا كان لنا متحف أَمين الريحاني في الفريكة، ولولا نهاد نوفل لَمَا كان لنا متحف الياس أَبو شبكة في زوق مكايل، ولَولا نديم ونظير عبود (والجيل الثاني مع وليد وأَبناء عمِّه) لَمَا كان لنا متحف مارون عبود في عين كفاع، ولولا أَناةُ سهى حداد (ابنة مي نعيمة) لَمَا كان لنا ما جمعَتْهُ بحرصها من أَغراض ومقتنيات ميخائيل نعيمة، إِلى لائحةٍ تَقْصر ولا تطول من بيوت تأَنَّى لها أَفراد ولم تهتمّ لها الدولة (حين كانت دولة). والدولة التي لا تحترم أَعلام وطنها تبقى دولةً بلا ذاكرة لأَنها تُوْلي اهتمامَها السياسيين والسياسيون عُمومًا عابرون آنيُّون زائلون مهما علا زَبَدُهم في زمنهم، فالزبَد لا بقاء له، مصيرُه الزوال عند بلوغه رمل الشاطئ.

على ذكْر اهتمام الدولة تحضرُني هذه الظاهرة: في جنوب فرنسا، عند منطقة إِكس آن پروڤانس، جبلٌ مَهيب يعلو شِيرُهُ 1000 متر، اسمه “جبل سيدة النصر”Mont Sainte Victoire . يحمل اسمه من سحيق الزمن تيمُّنًا بانتصار القائد الروماني غايوس ماريوس (157 – 86 ق.م.) في حربه على السِلْتيين والنوميديين (سنة 101 ق.م.)، وانتسابًا إِلى كنيسة “سيدة النصر” أُقيمت عند صدر الجبل في القرن السابع عشر. هذا الجبل استهوى الرسَّام الفرنسي پول سيزانّ (1839-1906). كان يَسكن في السهل الممتدّ بعيدًا قبالة الجبل، فوضع له 80 لوحة زيتية رسَم بعضها بين 1875 و1895، والآخَر بين 1904 و22 تشرين الأَول 1906 يوم تُوُفي وهو يرسم آخر لوحة له عن ذاك الجبل.

وذاتَ بدأَتْ دولةُ فرنسا ورشةَ تحديثٍ في تلك المنطقة حول الجبل، واحتاجت كمية كبيرة من الصخور تقتطعها من المقالع، و”جبل سيدة النصر” مقْلع مناسب جدًّا لكمية الصخُور، صدَر القرار بتفريغ الجبل من الداخل دون أَيِّ مَساس بأَيِّ شبر من صخوره أَو أَشجاره أَو معارجه من الخارج، حتى يظلَّ شكْلُهُ كما رسمه پول سيزان في 80 لوحة.

هكذا أَنقذَت فرنسا مَعْلَمًا خلَّده أَحد كبار رساميها المبدعين، وهكذا أَبقَت الذاكرة الفنية فيها خالدةً إِلى الأَجيال.

إِنّ وطنًا أَوكلَت دولتُه وزارةَ الثقافة إِلى أَندريه مالرو وجاك لانغ، ليس مستغرَبًا أَن تحافظَ على ذاكرته الثقافية فخرًا لها ومجدًا لتاريخها، لأَن فرنسا تَعتبر وزارة الثقافة سيادية رئيسَة غير ثانوية، وأَكثر: عرفَ وزراؤُها كيف يجعلونها مُنتِجةً فلا تكون وزارة شحَّادة شحيحة الموازنة.

وفيما عندنا مَــنَّــنَــتْــنا الدولةُ قبل ثُلث قرن (سنة 1993) بإِنشاء وزارة للثقافة، لم تخصِّص لها ميزانية لائقة كي تقوم بدورها الثقافي. وطالما لا تزال دولتُنا الشوساء تَعتبرها وزارة ثانوية (غير رئيسَة وغير سيادية) وتُسندها “إِلى مَن يتيَسَّر” لـملْءِ الكوتا المذهبية أَو الطائفية أَو السياسية، فلا رجاء يُرجى من هذه الدولة العاقر.

رئيسُ الجمهورية الجديد، إِما أَن يكونَ ذا رؤْيا ثقافية فينهضَ بالدولة إِلى مستوى الوطن الخالد بمبدعيه، أَو فَيَكون هو الآخَر جاء “بِـمَن تَيَسَّر” من قبيلة “بيت بو سياسة” التي لا ترى من الدولة أَبعد من أَنفها السياسي.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib