شمسٌ أُخرى في فرادة لبنان
“أَزرار” – الحلقة 1240 – “النهار” – السبت 24 أَيلول 2022

حين دعاني البروفسور ابرهيم نجار إِلى “جَـنَّـتـه” الثقافية لافتتاح محاضرة الدكتور فرنسوا بستاني، شدَّني إِلى شرَف القبول دافعان: صاحبُ الدعوة المترسِّل للثقافة لقاءاتٍ دوريةً لديه في “مركز الثقافة والحريات” (الأَشرفية) يستقطب نُخبةَ النُخبة من أَهل الثقافة بمعناها الأَوسع، وموضوعُ المحاضرة: “الأُسسُ التاريخيةُ الـمُشَكِّلةُ الفرادةَ اللبنانية”، وأَنا الناذرُ قلمي للإِضاءة على الفَرادات في سماء لبنان الوطن السابح هنيئًا عاليًا، فوق البشاعات على أَرض الدولة المهشَّمة وسُلطتها الغاشمة.

غنمتُ الكثير من الـمُحاضر الآتي إِلى التاريخ من العلْم (هو طبيبُ القلب المقيمُ في باريس، منذ ارتحل حدسيًّا إِلى فرنسا مع بدايات جحيم 1975). تابعتُ محاضرته بشغَف الاطِّلاع تسلسُلًا تاريخيًّا، منذ الوحدة السياسية المستقلَّة في جبل لبنان القرن السادس عشر تآلُفًا بين الكنيسة المارونية والأُمراء الدروز مَعنيِين فشهابيين، مرورًا بحوادث 1840 و1860 وفرْض نابوليون الثالث استقلالَ جبل لبنان 1861، فبُزوغ بيروت من دسكرة ثانوية إِلى فجر مدينة حيوية بعد شَق الطريق منها إِلى ضهر البيدر، تناميها الديموغرافي منذ احتضانها إِرساليَّتين: البروتستانتية (1823) واليسوعية (1831)، بداية المدارس (“الثلاثة أَقمار” للأُرثوذكس، “البطركية” للكاثوليك، “المقاصد” للسُنّة)، الاتِّجار بالحرير مع فرنسا (مدينة لِيُون)، مَطالع الهجرة، الحرب العالمية الأُولى، الثورة العربية ضد العثمانيين، معاهدة سايكس-بيكو (16 أَيار 1916) وولادة الشرق الأَدنى، انهيار السلطنة العثمانية والذهاب إِلى شقَّين: لبنان الكبير مع الموارنة، وسوريا الكبرى مع فيصل، مؤْتمر السلام في باريس (1919)، لجنة “كينغ كراين” (1919)، اتفاق كليمنصو-فيصل (استقلال لبنان على أَرضه برعاية فرنسا، ولجنة استشارية فرنسية لإِدارة سوريا – كانون الثاني 1920)، فيصل ملِكًا على سوريا (آذار 1920)، معركة ميسلون (تموز 1920)، إِعلان “لبنان الكبير” (1 أَيلول 1920)، كتاب جوپلان (بولس نجيم) أَول من كتبَ عن لبنان سنة 1908 بحدوده الحالية، معالجة مفهوم الوطن نقْلًا عن إِرنست رينان أَنه (“ذو عاملَين: امتلاكُ إِرثٍ غنيٍّ من الذكريات المشتركة، ورغبةُ الحياة معًا بالمحافظة على ذاك الإِرث”)، معاهدة الصداقة الفرنسية اللبنانية (1936)، “مانيفست كاظم الصلح” (“مسأَلة الاتصال والانفصال في لبنان”)، الميثاق الوطني (بشارة الخوري-رياض الصلح)، افتتاحية جورج نقاش (“نقيضان لا يصنعان وطنًا” – “الأُوريان” 10 آذار 1949)، لبنان نقيض القومية، عبارة الكاتب الفرنسي رومين غاري (“الوطنية هي محبة الآخرين، القومية هي كراهية الآخرين”). وهنا وَسَمَ الـمُحاضر فَرادة لبنان بعناصر عدَّة: ولادتُه في ظروف شاقَّة، رفْضُ بعض أَهله تلك الولادة، حصارُه طيلة القرن العشرين بين القومية العربية والقومية السورية، انفتاحُه فسحةَ حرية، نموُّ أَبنائه في هويات مختلفة، ملجأُ المضطهدين، ديمقراطيةٌ اصطلاحية، مركزُ إِشعاع ثقافي على شاطئ المتوسط الشرقي.

وختَم الـمُحاضر: “فيما لبنانُ الوطن ينمو ويُثمر، نَشهد انهيار الدولة فيه. وهذا تناقضٌ مأْساوي: لبنان لم يعد دولة بل شلَّعَتْهُ سُلطته بين أَحزاب طائفية يُديرها أَقطاب تقليديون أُمراءُ حرب سابقون ورجالُ أَعمال غطارسة، أَغبياءُ في السياسة العامة، عباقرةٌ في سياستهم الخاصة، ما يولِّد في أَبنائه اليأْس والملَل ورفضَ كلِّ ما وكلِّ مَن. وهذه أَقسى عقوبة لبلدٍ كان له ذات فترة أَن يُدهش العالم”.

ودِدتُ لو أَتبسَّط أَكثر في سرد نقاط باهرة من محاضرة الدكتور فرنسوا بستاني، غير أَن التفاصيل يضمُّها كتابه الضخم: “لبنان – تكوينُ وطن متفرِّد” (450 صفحة قطعًا وسَطًا، “دار منشورات إِريك بونييه” – باريس 2020).

بلى: إِنها صرخةُ الحقيقة في لبنانٍ ذي فرادة، ذي خصوصية، ذي رسالة، ذي قدَرٍ مستعار يحاول أَن يَطال الوطنَ فيه كي يَشُدَّه مسحوقًا على صورة دولته، ممعوسًا على صورة سُلطته، لكنه لا يستطيع ولن يستطيع. فبعيدًا عن الشوفينية والطوباوية والعصبية المجانية، سيظلُّ قدَرُ لبنان الحقيقيُّ أَن تدولَ دولته وتزولَ سُلطته ويبقى فيه الوطن على صورة أَرزه: رابضًا على جبل التاريخ، ناشبًا صوب مستقبله الصعب إِنما غير المستحيل.

هذا هو لبنان اللبناني: الوطنُ الذي به نؤْمن، ونعمل كي نظلَّ نستاهل أَن نكون أَبناءه المستحقِّين.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib