أَكتُب هذا المقال، أَمامي كتابٌ بالفرنسية نادر: “مقبرةٌ مَلَكيَّة في صيدا – تنقيباتُ حمدي بك”، تأْليف عثمان حمدي (1842-1910) مؤَسس ومدير المتحف السُلطاني في القسطنطينية (“اسطنبول” منذ1930) والدكتور تيودور رايناخ (1860-1928) مؤَسس ورئيس تحرير مجلة “الدراسات الإِغريقية” في باريس سنة 1888.
أَنا إِذًا أَمام كتابٍ عُمرُه 130 سنة: 420 صفحة، قطعًا كبيرًا، منشورات إِرنست لورو Leroux – باريس 1892).
إِهداءُ الكتاب: “إِلى صاحب الجلالة السلطان عبدالحميدخان الثاني”. فيه قسمان: الأَول “وصْف المكتشفات” كتبه حمدي، والآخَر “تعليقات أَركيولوجية” كتَبَه رايناخ، تسبقهما مقدمة كتبَها حمدي هي التي أَتوقَف عندها في هذا المقال.
جاء فيها: “مطلع 1887 كان المواطن محمد شريف يحفُر أَرضه في القيَّاعة قرب صيدا. في 2 آذار 1887 جاء إِلى قائمقام صيدا صادق بك يُعْلِمُهُ بعُثُوره في عُمق أَرضه على بئْر عميقة فيها آثار. هرع القائمقام صباح اليوم التالي ليجدَ في الجدار الشرقي من البئر سردابًا طويلًا يبدو في عتْمَته ناووسان. اتصل فورًا بالحاكم العام على سورية ناشد باشا وبمتصرف بيروت نَصُّوحي بك، وكلَّف بحراسة البئر قائدَ الشرطة في صيدا أَسعد أَفندي. وإِذ تلقّى القائمقام أَمرًا سُلطانيًا بتوسيع الحفْر، انكشَف له في عُمق الحفرة سردابان آخَران شمالًا وجنوبًا، فيهما عدَدٌ من النواويس. أَوقَف الحفْر واتصل برئيس فريق الهندسة في “الولاية” بشارة أَفندي الذي وصل في 15 آذار وأَخذ يَحفر فاكتشف سبعة سراديب تَرقُد فيها نواويس. وفي 24 آذار أَرسل تقريرًا مع رسوم تشبيهية إِلى ناشد باشا الذي حوّل التقرير إِلى وزارة الإِعلام العام في القسطنطينية. بلغَ التقريرُ السلطان عبدالحميد – وكان ذا ميل خاص إِلى الآثار – فأَمرَني بالسَفَر إِلى صيدا وإِخراجِ جميع النواويس وشَحنِها إِلى القسطنطينية بحرًا بسفينة خاصة للدولة، ومواصلة الحفْر في المكان وجواره لعل فيه كنوزًا أَثرية أُخرى. غادرتُ القسطنطينية في 18 نيسان 1887 وبلغْتُ صيدا في 30 منه، لتنفيذ المهمة. وفي 20 حزيران 1887 أَنجزْتُ استخراجَ جميع النواويس وشحنَها. وإِذ سُرَّ صاحب الجلالة من إِتماميَ ذلك، أَصدر إِلى الوزارة إِرادة سلطانية بتكليفيَ العودةَ في السنة التالية إِلى صيدا، ومواصلةَ الحفْريات، ومكافأَةَ محمد شريف صاحب الأَرض بمبلغ 1500 ليرة تركية. ومن حرْص صاحب الجلالة على جمْع الكنوز الأَثرية من جميع أَنحاء السلطنة العثمانية، أَصدَر أَمرًا سُلطانيًّا حازمًا بمعاقبة كلِّ مَن يجد في أَرضه معالِمَ أَثرية ولا يُصرِّح بها (…)”.
هذه المقدمة التي وقَّعها حمدي من “كورو تْشِشْمِه – في 15 تشرين الثاني 1890” (“كورو تْشِشْمِه” قرية سياحية على الضفة الأُوروبية من البوسفور)، فيها تفاصيل مهمة عما حصل في ما بعد، وأَوردَها في كتابه، يضيق المجال لذكرها في هذا المقال.
الشاهد هنا أَن مقبرة مَلَكية كاملة تضُمُّ نواويس ملوك صيدون على أَرضنا اللبنانية في صيدانا الغالية، صيدا التاريخية العظيمة، “صادرَتْها” اسطنبول – إِبان سيطرة السلطنة العثمانية على منطقتنا – فَشَكَّلَت، بناءً على أَوامر عبدالحميد شخصيًّا، نُواةَ متحف اسطنبول الذي أَسَّسه عثمان حمدي بك سنة 1891 (أَي قبْل سنة واحدة من وضْعِهِ كتابَه موضوع هذا المقال).
اليوم – بعدما كانت كنوز أَرضنا نهب الأَثريين، وفي طليعتهم إِرنست رينان (مكتشفاتُه اللبنانية موجودة في “اللوفر”)، وكما تَجهد الدول إِلى استرداد كنوزها الأَثرية من بلدان الآخرين – يَجمُل أَن تَعمَد دولتُنا، رغم تعتيرها، إِلى استرداد كنوز لنا في متاحف العالم فتعود إِلينا شواهدُ العصور شاهدةً دامغة على عراقةِ لبنان التاريخية العابرةِ العصور فوق مجريات حياة يومية تافهة تُغْرِقنا فيها سُلطةٌ فاشلةٌ في إِدارة البلاد.
ولكن… إِذا لبنانُ الدولة فاشلٌ بسُلطته، فلبنانُ الوطن غنيٌّ بعبقرية شعبه وأَعلامه المبدعين، وبكُنُوز أَرضه في كلِّ بقعة من ترابه، ومنها هذه المقبرة الـمَلَكية التي “صادرها” العثمانيون من أَرضنا قبل 135 سنة مُباهين بها في متحفِهم حارمينَ منها متحفَنا الوطني.
وزارة الثقافة… فَلْتَتَحَرَّكْ.
هـنـري زغـيـب