فضيحةُ زيارة المتحف على ضَوْءِ شمعة
“نقطة على الحرف”- الحلقة 1583 – “صوت كلّ لبنان” – الأَحد 28 آب 2022

الذي رأَيتُه أَمس في تقريرٍ لِموقع “آراب نيوز”، لم يكن مشهدَ أُناس في زاويةٍ مظْلمةٍ من ملجإٍ مظْلمٍ يَبحثون عن ضائع يسعون إِليه على ضوء هاتف محمول، ولا مشهدَ رجل يبحث على نور شمعةٍ عن لقمةٍ في مستوعب نفايات، بل كان مشهدًا مؤْلِمًا مُؤْذِيًا مُذِلًّا لزوَّارٍ وسيَّاحٍ في المتحف الوطني أَضاؤُوا هواتفهم المحمولة، فوق الطاولات المزجَّجة المقفَلة أَو فوق أَنصابٍ وتماثيلَ غارقةٍ في العتمة اللئيمة، كي يتسنَّى لهم أَن يَرَوا قِطَع الآثار ويقرأُوا الشُرُوح عنها.

وجاء في ذاك التقرير أَنْ بعدما كانت ساعات الزيارة بين الساعة التاسعة صباحًا والخامسة عصرًا، قلَّصَتْها إِدارة المتحف بين العاشرة صباحًا والثانية ظهرًا، حتى يُفيدَ الزوَّار من نُور الشمس المتساقطِ بين النوافذ، وهو ما قلَّص تلقائيًّا عدد زوَّار المتحف منذ مطلع هذا الصيف.

طبعًا لا نلومَنَّ القيِّمين على المتحف ولا المسؤُولين عنه، فإِنهم يَعمَلون ويُعمِلون ضمْن الـمُتاح لهم من الإِمكانات الضئيلة، خصوصًا نفاد المال المخصص لشراء مادة المازوت، وتاليًا توقُّف المولِّدات عن العمل، ما سبَّب العتمةَ اللئيمةَ في أَرجاء المتحف.

وما يعني ذلك في المتحف الوطني؟؟ يعني أَوَّلًا غيابَ النُور عن الصالات والممرات، ويعني ثانيًا غيابَ أَجهزة الإِنذار عند أَيِّ خطَر، ويعني ثالثًا غيابَ كاميرات المراقبة لضبْط أَيِّ سرقةٍ لأَيِّ قطعةٍ صغيرةٍ من كُنوز متحفنا الوطني الغني بكُنوز نادرة في العالم.

يحصل كل هذا فيما وزارةُ السياحة ناشطة في الإِعلان عن صيف لبنان الناشط، بوصول مئاتِ الآلاف من مُهاجرين عادوا أَسابيعَ نوستالجيَّةً إِلى حنان أَرضِهم الأُم. وهي ظاهرةٌ إِيجابية أَنعشَت الاقتصاد وحرَّكَت بعض جمودٍ ماليٍّ فيه. ولا أُريد هنا أَن أَكون سلبيًّا فلا أَرى حَسَنَةَ هذا الإِقبال المثْمر. إِنما السياحة لا تقتصر على “ليالي الأُنس” في القُرى والمدن، ولا على “كاس العرق” و”صحن التَبُّولة” ولقمة الــ”كبّة نيّة” وحلقات الرقص وحفلات الغناء، مع كلِّ ما فيها من نسمة هَناء. لكنَّ السياحة الثقافية في لبنان أَهَمُّ وأَبقى من أَي مظاهرَ سياحية اجتماعية وشعبية وفنية، والمتحف الوطني فخْرُنا الأَول وعنوانٌ أَولُ للسياحة الثقافية في لبنان.

أَعرف أَن مشكلة المتحف الوطني هي ذاتُها في سائر مؤَسسات هذه الدولة الفقيرة الشحَّادة التي تَعمل من دون موازنة في معظم دوائرها ومؤَسساتها. وأَعرف أَن نقص المازوت يُسبِّب توقُّف المولِّدات في معظم المؤَسسات الرسمية، لذلك، ربما كان الأَجدى أَن تُقفِل الدولةُ المتحف الوطني، كما فعلَت زمنَ الكورونا، فهذا أَشرف صورةً للبنانَ الثقافة من أَن يُضِيْءَ الزوَّار شمعة هاتفهم الخَلَوي كي يقرأُوا شرحًا أَو يتأَملوا كنزًا من كنوز المتحف النادرة الفريدة في التاريخ.

لم يَبْلُغْنا أَن بيتَ سياسي لبناني انطفأَ فيه النور للنقْص في مازوت مولِّداته، فيما يَبْلُغُنا أَنَّ صروحًا لبنانيةً رسميةً تَغرق في العتمة والتعطيل بسبب ذاك النقص الذي يصوِّر لبنان في العالم دولةً فقيرةً شحَّادةً تَطرح الصوت على الدُوَل طالبةً معونةً أَو إِعاشةً أَو مساعداتٍ من كلِّ نوع، ما يجعل إِدارةَ هذه الدولة مُجْرِمَةً بحق لبنان لأَنها لم تَحتسِب له مستقبلًا ولا حتى حاضرًا، لذا وصَل إِلى هذه الدرجة من الفقْر والذُلّ والتعتير.

بلى: إِقفال المتحف مُوَقَّتًا أَشرفُ لصورة لبنان من زيارته على نورِ هاتفٍ خَلَوِيٍّ أَو، في أَسوإِ الحالات، على ضَوءِ شمعة.

هـنـري زغـيـب

email@old.henrizoghaib.com

www.henrizoghaib.com

www.facebook.com/poethenrizoghaib