بعد صدور مقالي السابق “النص هو المبدع… أَما الصوت فمجرَّد المؤَدّي” (“أَزرار” 1234 – “نهار” السبت 13 آب الجاري)، أَخذَ عليَّ أَصدقاءُ قسْوَتي في اعتبار الأَصوات المغنِّية مجرَّدَ مُؤَدِّية وحسْب.
طبعًا لا أَتراجع عن رأْيي بل أُؤَكِّد عليه لا تعميمًا بل تصميمًا أَنَّ الصوت المؤَدِّي ليس مجرَّدَ عَضَلةٍ في الحلْق أَو كتلةَ أَوتار تُصَوِّت، متفاوتَةَ الأَداء بين جيِّدٍ وأَقلَّ جودة.
ولْنَتَّفِق – استطرادًا – أَنَّ الصوتَ المغَنِّي الذي يقتصر دورُهُ على مجرَّد ناقلٍ كلماتِ الأُغنيةِ ولحنَها، هو المؤَدِّي الذي قصدتُه في مقالي السابق وأُكرر رأْيي فيه. ذلك أَن الغناء ليس مجرد وظيفة بيولوجية تؤَدِّيها العضَلة الصوتية في الحلْق فتترجمها الأَوتار الصوتية الموجودة أَصلًا لدى كل كائن بشري ويتفاوت أَداؤُها، غناءً أَو تصويتًا، بين كائن وآخر.
إِذًا، فَلْنَعتَبِر مُسْبقًا أَن الغناء ليس التصويت فقط. ولكي أُجيب عن السُؤَال الذي طرحتُهُ في ختام مقالي السابق: “أَيُّ صوتٍ ليس مجرَّد “المؤَدّي”؟ أَرى أَن الصوت المتفرِّد النادر الذي أَعنيه في الغناء هو التالي:
أَهمية الصوت المغَنِّي ليست في ذاته بل في ما يحمله من مضمون في النص وما يؤَدِّيه من جماليا في اللحن. وإِنَّ صوتًا يغنِّي كلمات تافهة ساقطة عادية، لن يؤَثِّر في المتلقِّي أَيًّا يكن مستوى الصوت، لأَن تفاهة الكلام ستَحيد بالصوت عن مستواه. وكذا الأَمر حين يكون اللحن مجرد تنويط سخيف وطرطقة دف ودربكة وزيزقة أَوتار، لن يرفع الصوت إِلى مستوى أَعلى. وما تجرفه لنا الأُغنيات الحالية من زبد ووحل ونفايات، شاهد وقِح على ما أَقول.
وأَهمية الصوت المغَنِّي هي في اللفْظ ومخارج الحروف، خصوصًا حين الأُغنية بالفصحى، كي يَبْلُغ الكلام عند الغناء واضحًا بدون عناء. وفي مستنقعات الأَغاني الحالية أَكوام منها لا تصِل كلماتها واضحةً بل تتعثَّر في إِهمال لفْظ الصوتِ إِيصالها.
وأَهمية الصوت المغَنِّي هي في الإِحساس بما يؤَدِّيه من مشاعر نسجَها صاحبُ النص وتخيَّرَها صاحبُ اللحن كي يؤَدِّيها الصوت بالإِحساس ذاته، فلا يؤَدِّي الصوت مضمونًا حزينًا فيما صاحب/صاحبة الصوت في حالة ابتسام أَو فرح أَو حوار طَرُوب مع “الجمهور الحبيب”.
هنا أَترك لقرَّاء “النهار” أَن ينتَقُوا من الأَصوات التي يسمعونها تلك التي تَفِي بهذه الصفات أَعلاه، ويقرِّروا أَيَّ صوت يستحقُّ فعلًا أَن يكون أَكثر من مجرد “المؤَدِّي”.
فعندنا من الأَصوات النادرة تلك التي تحمل مضمونًا كلاميًّا هو في ذاته روعة شعرية تبقى على روعتها حتى عند تَنَاوَلِهِ منْفصلًا عن الصوت، فيبقى في ذاته قيمةً شعرية عالية.
وعندنا من الأَصوات النادرة تلك التي تحمل مضمونًا لحنيًّا هو في ذاته قيمة ميلودية عالية تبقى على جمالها حتى حين نسمعه وحده بدون الكلام المغنَّى وبدون الصوت المغنِّي.
هكذا لا يعود الصوت المغني مجرَّد ناسخٍ عاديٍّ كلامًا عاديًّا ولحنًا عاديًّا، بل يصبح قيمةً صوتيةً في ذاتها تحمل لنا قيمةً شعرية عالية وقيمة موسيقية عالية، فتتلاقى في نبض هذا الصوت تلك الثلاثةُ القيَم والقمم.
وهكذا يضيف الصوت شِعرًا على الشِعر، وميلوديا على النغَم، ليصبح هذا الصوت حاجةً لتلك القيَم عوض أَن يكون لها مجرَّد ناقل أَو ناسخ أَو “بوسطجي”.
معيارُ الصوت المبدع: لا أَن يكون ترَفًا تسلويًّا لأَوقات الفراغ، بل أَن يصبح حاجةً يتطلبَّها المتلقِّي كي يستمتع بالقيَم الثلاث والقمَم الثلاث، فتصبح الأُغنية عندئذ متعة نفسية وروحية وفكرية.
الآن، لَكُم أَن تقارنوا بعناصر هذا المعيار فتَحكُموا: أَيُّ صوتٍ هو فعلًا… ليس مجرَّد المؤَدِّي.
هـنـري زغـيـب