في نصِّ المؤْتمر الصحافي الذي عقَدَتْهُ الجمعة (أَولَ من أَمس) “لجنةُ التنسيق اللبنانيةُ الأَميركية”، خاتمةً جولَتَها على مرجعيات ضاغطة فاعلة خارج “حظيرة” المسؤُولين التقليديين الموميائيين – وهو نصٌّ ختاميٌّ ممتازٌ بكامله هَدَفًا واتجاهًا -، لَفَتَتْني عبارتان ساطعتان. الأُولى: “لبنان مُهدَّدٌ بفقدان هُويته”، والأُخرى: “إِنها اليوم لحظةٌ تاريخيةٌ للتحرُّك إِقليميًّا وَدُوَليًّا، إِذا أَضاعها لبنان ضاعَ لبنانُ الرسالة الـمُثْلى للتَنَوُّع الثقافي والتَعَدُّدية الحضارية”.
قلتُ إِنهما “ساطعتان”، لأَنهما عبارتان تختصران من لبنان جوهرَ وجوده. فأَيُّ قيمةٍ لوطنٍ بلا هُوية، أَو أُلبِسَ قسرًا هُويةً مستعارة؟ وأَيُّ معنًى لوطن ليس له دورٌ رسالي في محيطه وفي العالم؟
قيمةُ لبنان لم تكُن يومًا في جغرافياه الضئيلة ولا في ديموغرافياه القليلة، بل في سُطُوعه وطنًا بحجم قُبلةٍ إِبداعية، غيرَ عادي بعطاءات أَبنائه، مُقيمين على أَرضه ومغتربين في كل أَرض من الكوكب، فلا تشرقُ شمسٌ على بلدٍ في العالَم إِلَّا ويُشرق معها اسم لبنانيٍّ برعَ في حقل من الحقول المعرفية.
بعضُ خلاص لبنان، إِذًا، ليس في لفتة الدول إليه فقط، بل بدءًا من قلوب أَبنائه وضميرهم. فبعد الانتخابات النيابية الأَخيرة، ثَـبُتَ أَنّ في لبنان ضُمَّةً نخبويةً خَلَعَت عنها نيرَ الدينوصوريين المسْبَطِرِّين قسرًا على كراسي الحكم منذ دهور، ولكنْ ثَبُتَ أَيضًا أَنَّ في لبنانَ بعدُ مازوشيين أَغبياء عميانيين أَغناميين جَدَّدوا السلطة لجلَّاديهم الساديين. وماذا يُرجى من بعض شعبٍ ما زال مؤْمنًا بأَسياده الطُغاة، يُصَدِّقهم ويُمَجِّدهم ويسلِّمهم مصيرَه ويَحمِلُهم على أَكتافه الخانعة، ويعلن ولاءَه لهم لا للوطن. ولا رجاءَ يرجى من مواطنين يعقدون ولاءَهم للقائد الواحد أَو الزعيم الأَوحد أَو أَيِّ مَن يَدَّعي زُورًا وغشًا حمايةَ حقوق طائفتهم، غيرَ مدركين أَن هؤُلاء الأَسيادَ عبيدٌ خانعون عند أَسيادهم الخارجيين وليسوا أَبدًا سياديين. وشتَّان ما بين الأَسياد المزوَّرين والسياديين الأَحرار.
من هنا ضرورةُ أَن يصحو بعض شعبنا الخانع فَيُشْفى من استزلامه الأَعمى واستسلامه الغبيّ إِلى مَن ليسوا سوى نمورٍ من ورق، عمرُهُم كعُمر سائر الطُغاة: اليوم طاغون باغون على رؤُوس أَزلامهم المصَفِّقين الـمُهَوبِرِين ومحاسيبهم الخانعين، وغدًا مجروفون إِلى نُفايات الزمن الذي يسحق الطغاة وأَزلامهم ومحاسيبهم.
هُويةُ لبنان، كما حذَّر من فقدانها بيانُ “لجنة التنسيق اللبنانية الأَميركية”، هي اليوم على شفير الخطر، فلن يؤْمِنَ بهُوية لبنان مَن هو خانعٌ عند أَسياده غيرِ المؤْمنين بهُوية لبنان اللبناني. إِن لبنان لا يَحمل إِلَّا صفةً واحدة: الصفة اللبنانية، ولا يُنعَتُ إلَّا بشرف واحد: شرف لبنان اللبناني، ولا حضورَ محترَمًا له في العالم إِلَّا الحضور اللبناني الواحد الموحَّد، به يَفرِض على العالم رسالته الحضارية وأَهميته الوجودية، فيُكملُ ما يَعرف عنه العالم بأَنه وطنٌ لا يقاس بمساحته ولا بعدَد سكانه بل بما في دماغ إِنسانه اللبناني من عبقرية نادرة فريدة ساطعة في العالم.
من أَجل هذا الإِنسان اللبناني، ومن أَجل أَن يبقى بسُطُوعه لبنان، يجب على بقايا الخانعين أَن يَخلعوا عن رقابهم نيرَ جلَّاديهم، وأَن يُنْزِلُوهم عن كراسيهم المستريحة على أَكتاف بعض الشعب، حتى يُطلَّ فجرٌ مشعٌّ بلبنان اللبناني، وتُشرقَ شمس على لبنان الحقيقي، اللبناني الهُوية، اللبناني الحضور، واللبناني الرسولي بشعبه المستحقِّ فعلًا شرفَ أَن يُسَمّى شعبَ لبنان.
هـنـري زغـيـب