يظلُّ طول العمر يَـبحث عنها حتى يجدَها بلهفة المشتاق إِليها وقلق الغياب قبلها. لا معيار للعمر كي يجدَها. قد يلتقيها في خريف العمر فتُحوِّل خريفَه ربيعًا دائمًا. وقد لا يلتقيها فينطوي عمرُه على الأَمل المكسور.
ولكنْ… حين تأْتي، حين يلتقيها، حين يجدُها، هل يـبقى هو هو؟ أَم هي التي تتناول “أَناهُ” الْـكانت، فتُقَوْلِبُها إِلى “أَناها” مثلما تكون؟
ما سرُّ هذه الهيبة، هذه الهالة، هذه السطوة يَغمر الحبُّ بها العاشقَ فينطرح أَمام الحبيبة مراهقًا كما بكارةُ أَولِ بُرعمٍ في الربيع؟
يكون الرجل جبَّارًا قاسيًا، قلَمًا هادرًا، فكْرًا عظيمًا، سلطةً سياسية أَو أَدبية أَو إِبداعية، فيستحيل أَمام حبيبته طفْلَ شَغَف.
لا تنقصُني الأَمثلة:
هوذا فرنسوا ميتّران، الرئيسُ الفرنسي الصارم ذو الولايتَين، يتولَّه بالصبيّة آنّ پِنْجُو فيغدو مراهقًا ولِعًا بها حتى الهذيان، يتبادل معها 1217 رسالة لاهبة صدرَت قبل أَشهر في كتاب “رسائل إِلى آنّ” من 1280 صفحة قطعًا كبيرًا.
وهوذا أَلبِر كامو، الكاتبُ الثائر، صوتُ المقاومة الفرنسية، يتحوَّل ذائبًا ورِعًا واهنًا أَمام حبيبته ماريَّا فيتبادل معها 865 رسالة حُب عاصف مجنون، صدرَت قبل فترة في كتاب “مراسلات أَلبِر كامو وماريا كازاريس” من 1312 صفحة قطعًا كبيرًا.
وهوذا الرسام سلڤادور دالي، زعيمُ السوريالية التشكيلية القاسي القسَمات والريشة، ينهار ضعيفًا عاشقًا أَمام حبيبته غالا التي عذَّبتْهُ وعشقَت سواه بمعرفته، وظلَّ يحبُّها متولِّهًا بها، لا يقصد إِليها إِلَّا بعد إِذْنها الخطيّ ليزورها في قصرٍ هو اشتراه لها، راضيًا بها كيفما كانت ومهما فعلَت.
وهوذا سعيد عقل، الباسطُ حضورَه الطاغي على قرن كامل من الشعر العربي، والـمُدَّعي (كما ذكَرَ لي ودوَّنتُهُ في كتابي “سعيد عقل إِن حكى”) أَنَّ نساءً أَحبَبْنَهُ أَكثرَ مما هو أَحَب واحدةً منهنّ، ينهار ذَوبًا وتَوَلُّهًا أَمام الـرندلى فيعترف لها جاثيًا أَمامها:
أُحبُّكِ في ذلَّة الراكعِ وأَحيا على أَملٍ وادعِ
وأَعرف أَلَّا أَبوحَ بحبّي فأُبقي له مسحة الخاشعِ
وهوذا أُنسي الحاج، القلمُ/البركان الذي قاد ثورة ثقافية ووطنية في مقالاته المتفجّرة (خصوصًا في”ملحق النهار”) أَصدر كتابه “الرسولة بشَعرها الطويل حتى الينابيع” (أَحد أَجمل كتُب الحب على الإِطلاق في الأَدب العربي)، حين أَراد أَن يَكتُب إِهداءً إِلى حبيبته، اكتفى بكلمة واحدة كتبَها بخطِّه وقلَمِه: “مَغْلُوبُكِ”.
ما هذا السرّ؟ ما لُغْزُ هذا السرّ؟ أَيُّ سرّ فيها، هذا المرأَة المعشوقة، ترقى إِلى حدّ التقديس حتى بَلَغ التَوَلُّه الإِلهي بجلال الدين الرومي قولَه: “المعشوق هو الكُلّ، أَمَّا العاشق فحجاب”؟
أَتَكون في المرأَة هالةٌ أُلوهيةٌ حتى يركع عاشقُها أَمامها فيشعر أَنه يرفع رأْسه عند قدميها؟
أَيكونُ أَنه يراها بعيون قلبه وروحه ومشاعره وأَحاسيسه حتى إِذا تَعرَّت حقيقتُها وعاد يراها بعينَيه وحدهما وقَعَ في فجيعة الخيبة؟
ومَن هي التي تستحقّ أَن يخلَع رجُلُها “أَناهُ” أَمامَها فلا تكتمل رُجولتُه إِلَّا بأُنوثتها؟
هل هي حقًّا موجودة؟ أَخشى أَن تكون غالبًا تأْتي إِلى واقعه من خياله غير العاديّ، فإِذا هبطَت من خياله ارتطمَت بواقعها العاديّ فسقطَتْ عنها استيهاماتُ خياله.
وحين ليسَت كذلك، تكون فعلًا امرأَةً استثنائية نادرة جدًّا، طوبى لِـمَن تَـمنحُهُ حبَّها النادر ولو بعد طول انتظار.
***
عن دفتر داناي (2 من 10) :
– ما النعمة؟
– أَن أَعيشَ في فردوس رضاكِ!
هـنـري زغـيـب