قبل فترة طويلة مضيئة، قبل أَن تستفحلَ حقارةُ السياسيين في نهْش الوطن وإِيصاله إِلى وُحُول البؤْس، كانت بيروت زنبقةَ الشرق ولؤْلؤَةَ العرب يتغاوَوْن بتمضية أَزهى أَوقاتهم فيها، يتسابق أُدباؤُهم إِلى نشر مؤَلَّفاتهم في بيروت، وإِلقاءِ قصائدِهم ومحاضراتِهم في بيروت، ويتسابق فنانوهم إِلى الغناء في بيروت، وعرْضِ لوحاتهم في بيروت، وتقديم أَعمالهم على مسارح بيروت، والكتابة عن بيروت وعن لبنان بأَصفى ما تَنْقى أَقلامهم.
ودار الزمان على لبنان بسبب الحقارة والدناءَة والخيانة في قيادة معظم “بيت بو سياسة”، فباتت بيروت السياسية ذليلةً مكسورةَ الخاطر تنادي دولَ العالم إِلى مساعدتها شفقةً واسترحامًا.
هل هذه هي بيروت؟ لا. أَبدًا. هذه بيروتُهم هم، أُولئك الذين أَوصلوها سياسيًّا واقتصاديًّا إِلى حيث هي اليوم، فباتت تُشبِهُهُم سياسيًّا لأَنهم ساقطون من ضمير الوطن.
أَقول “ضمير الوطن” وأَقصُدُها لأَنه وطنُ الإِبداع والمبدعين، ولا أَقول “ضمير الدولة” لأَن السياسيين أَفرغوها من الضمير حين أَلْبَسوها جثَّة ضميرهم. وطبعًا لا أَقول “ضمير السُلطة” لأَن في السُلطة مَن يتنافسون إِلى الحقارة والخيانة وكلتاهما صِفَتُهم.
إِذًا لا أَرى بهاءً لـ”ضمير الوطن” إِلَّا في لبنان الثقافة والمبدعين أَدَبًا وفُنُونًا، لأَن أَصداء أَعمالهم، ماضيًا وحاضرًا، ما زالت تتردَّد في ذاكرة العرب والعالم.
أَقول هذا، وأَنا ما زلتُ في الرياض، أُتابع النجاح القياسي الذي يحقِّقه مسرح كركلَّا في “جميل وبُثَيْنة”، عملِه الجديد الذي حملَ من لبنان قصةً خالدةً من قلب الأَدب العربي في العصر الأُموي عن “الحب الممنوع” بين سيِّد الغزل العُذري الشاعر جميل بن معمَّر وحبيبتِه بُثينة، وهي قصةٌ جرت واقعيًّا في وادي القُرى (اليوم: في محافظة العُلا السعودية بين تيماء وخيبر، وحدَّده ياقوت الحمويّ واديًا “بين الشام والمدينة الـمُنَوَّرة”).
أَقول هذا، لا انفعالًا عاطفيًّا بل بَعدَ الذي عاينْتُه من لبنانيين حضروا ليلة الافتتاح، مُكْبِرين أَن يحمل عبد الحليم كركلَّا من لبنان إِلى السعودية عملًا راقيًا عن قصةٍ سعوديةٍ يأْتيها بأَجملَ ما لديه إِعدادًا وكوريغرافيا وأَلحانًا وتمثيلًا وإِخراجًا، لتنفتِحَ الستارة على عمل لبناني في أَرض المملكة.
وكم غَبَطني أَكثر أَن أُصغي إِلى تعليقات سعودية مسؤُولة أَكبَرَتْ أَن يُشاهدَ السعوديون مسرحيةً بهذا الجمال من مملكتهم في مملكتهم عن مملكتهم وتاريخها العريق.
دورُ لبنان؟ هذا هو دور لبنان: أَن يكون دومًا شمسًا مشعَّةً في ليل هذا الشرق.
أَيُّ لبنان؟ طبعًا لبنان الوطن لا لبنان الدولة ولا لبنان السلطة. أَقصُد لبنانَ الوطن. فمهما تحاقَرَ سياسيوه وأَفلسَ زعماؤُه وخانوا حقيقة لبنان، يبقى لبنانُ الوطن مكْملًا مسيرته الحضارية الثقافية التراثية الإِبداعية صوب تنصيع لبنان الوطن، ولْتحترقْ بـنار الشماتة كلُّ سلطةٍ في لبنان لا تَنْذُرُ ذاتها لخدمة دولة لبنان كي تعودَ إِلى ما كانت عليه من احترام الدُوَل هيبةَ الدولة اللبنانية حين كانت دولتُنا بقيادةٍ ساسة جعلوا ذاتَهم في خدمة الدولة لا كالذين “مَزْرعوا” الدولة فتَحَاقروا وحقَّروها في عيون العالَم.
ليلةَ أَمس السبت في الرياض، أَشرقَت شمسٌ عربيةٌ من لبنان كركلَّا، طرَّزَها عملٌ مسرحيٌّ استثنائيٌّ جعلَنا نَشعر أَننا قادرون على الشعور، في أَيِّ وقت، أَنَّ لبنان الوطن المبدع – أَيًّا يكُن تافهًا وضْعُه السياسي – يحمل دائما إِلينا فجرًا جديدًا يَسْطعُ علينا شمسًا بهيةً لبَقيَّة الليل.
هـنـري زغـيـب