طاف هذا الأُسبوعُ بأَمطار التعليق على الانتخابات، نتائجَ وأَرقامًا ومفاجآتٍ واستنكارًا وصدَماتٍ وأَهازيجَ ووُجومًا ورسائلَ نصيةً شتّى على منصَّات التواصل الإِلكترونية، حتى فلا مجالَ بعدُ لأَيِّ مَزيدٍ إِلَّا مُكرِّرًا بشكلٍ أَو بآخَر ما سبَق وُرُودُه.
اليوم، بين التعليق والتدقيق، ليس المهم التعليق “مع” أَو “ضد” بل التدقيق “مع” بدون “ضد”. ولأَن التدقيق عادةً يكون في الهوية عند دخول المحطات، برًّا وبحرًا وجَوًّا، هو ذاته اليومَ التدقيقُ في الهوية الوحيدة عند محطة الوطن. لذا لن أَدخل في بيزنطية التنظير بين أَكثرية أَو أَقلية، فهذا ديكورٌ هَشّ ينهار عند أَول هَبَّة ريح إِن لم يضَع المجلس الجديد قبضتَه على الدور الحاسم الحازم العازم.
وما هذا الدور؟ إِنه وعيُهُ الواقعَ المصيري: “نكون أَو لا نكون”، أَيْ: لبنان اللبناني أَو لبنان الهُوية المستعارة أَيًّا تكُن ومهما تكن. لا شرقًا نريدُها تتَّجِه ولا غربًا. فلا الغربُ يحترمُنا ولا الشرق ولن يحترمَنا أَحد إِن لم نحترمْ نحنُ هُويتنا. كلُّ دولةٍ تؤَجِّرُ أَبناءَها إِلى هُوية أُخرى تبقى تابعًةً تلك الهُويةَ الغريبة، مستسلمةً لأَمرها، مستزلِمةً بأَمرها، فيزُول حضورُها عن خارطة الدول الحُرَّة. فهل هذا ما يُضمِرُ للبنان مَن يريدون تأْجيرَه لِـهُوية أُخرى؟ ما قيمةُ دولةٍ ظاهرُها لبناني وسلْطتُها ثَعْلبية النوايا من وراء النيابة؟ ما قيمةُ نائبٍ أُمِّيِّ تشريعٍ يتقزَّمُ دورُهُ إِلى مسهِّل خدماتٍ في منطقته الانتخابية، أَو مُعقِّب معاملات، أَو متهافتٍ إِلى حضور مأْتمٍ والقيام بواجب تعزية، عوض العمل تشريعًا مستقبليًّا لخدمة شعبه في حاجاته الأَولية والثانوية والتالية كي يطالَ التشريعُ كلَّ مواطن في كل لبنان؟
ومن التشريع إِلى المراقبة بفصْل النياية عن الوزارة. فما قيمةُ نائبٍ مُراقِبٍ حين يكون هو ذاتُهُ وزيرًا مراقَبًا، فتنام المشاريع في الأَدراج، مع أَن كلَّ مشروع يكون حاملًا كليشِّيه عنوانه الفولكلوري: “مكرَّر معجَّل”.
هذا هو الدور المطلوبُ من التغييريين الوافدين اليوم إِلى المجلس الجديد، بعدما خلعوا عن تاريخ لبنان الحديث وصمةَ التوريث الطائفي التقليدي، وأَثبتوا أَنْ بلى: بدأَت تهبُّ الريح التي تمزِّق الأَشرعة البالية، عساها بعد أَربع سنوات أُخرى تُكمل على ما سيكون باقيًا من أَشرعة بالية.
المطلوب من التغييريين الوافدين ينتقلوا من ساحة الهَجْمة إِلى ساحة النَجْمة ويحوِّلوا الهَجْمة على السلطة القميئة إِلى النَجْمة على السلطة الجريئة، فيعملوا أَلَّا تتحوَّل وحدتهم خارجًا في ساحة الحرية إلى تفرُّقٍ داخلًا في ساحة التشريع النيابي. بهذا ينْقُضُون تشاؤُمَ النقَّاقين المتشائمين السلبيين الانهزاميين الذين قلَبُوا شفاههم ولم يذهبوا إِلى الانتخاب لرأْيهم أَنْ لن يَتَغَيَّرَ الوضع.
بلى: تَغَيَّر… تغيَّر بعضُ الوضع. وفي الدورة المقبلة، بعد أَربع سنوات، قد يتغيَّر كاملُ الوضع، إِذا أَكمل سهمُ التغيير انطلاقه صوب الدولة المنتظَرة من بعض التغيُّر الذي أَشرَق فجرُهُ الأَحدَ الماضي، على أَمل أَن يُكمِلَ الشُروقُ ظهيرًا ساطعًا لدولة قوية وسلطة نقية تُعيد إِلى خارطة العالم لبنان الوطن الذي يأْبى إِلَّا أَن يخرج على العالم بهُويته الواحدة الوحيدة: لبنان اللبناني.
هـنـري زغـيـب