مُغْريًا كان العرضُ يومها (1984) بقدْرما هو مَهيب. وراح فارس أسطفان، على شرفة بيته الـمُعْنِق عند تلة غوسطا الكسروانية الـمُشْرفة على خليج جونيه الرائع شكلًا وتاريخًا، يتبسَّط في طلبه أَن أُسافر إِلى نيويورك، أَتولَّى رئاسة تحرير جريدته “الهدى”، وكان يلقى، فترتئذٍ، صعوبةَ مَن يتولَّاها في الجالية اللبنانية هناك.
الإِغراء في الطلَب: أَن أَتولَّى تحرير أَعرقِ جريدةٍ صدورًا متواصلًا في أَميركا منذ تأْسيسها سنة 1898. والـمَهابة: أَن أَخْلف في رئاستها مؤَسِّسَها “النمر اللبناني” نعوم مكرزل، فشقيقَه سلُّوم فابنةَ الأَخير ماري التي شقَّت عليها المواصلة (لجهلها العربية) فاستجاب فارس لنصيحة عمه سيّد رعية بوسطن المارونية الخورأسقف منصور أسطفان، واشترى “الهدى” سنة 1969.
تلبيةً صوتَ الإِغراء والمهابة، انصرفتُ إِلى ترتيب وضعي الصحافيّ بمواصلة الكتابة من نيويورك لــ”النهار” (شوقي أَبي شقرا في الصفحة الثقافية) ومجلة “النهار العربي والدولي” (كان أُنسي الحاج يُصدرها من پاريس). وعاد فارس إِلى نيويورك يهيِّئُ لي وضعي، حتى إِذا جهَّزه هتَف إِليَّ من هناك أَنْ: “هَـلُـمَّ” فــ”اهْـلَـمَـمْـتُ” إِليها يتردَّد في بالي أَن مكتبي في “الهدى” (المبنى 34 الشارع 28 غربًا) سيكون قريبًا من سُكنى جبران (المبنى 51 الشارع العاشر غربًا).
بدأَتُ مسيرتي في “الهدى” متَرسِّلًا للبنان اللبناني، مطرِّزًا صفحاتها بزوايا أُسبوعية تهُمُّ اللبنانيين في الولايات الأَميركية، منها صفحة “احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي”، وكتاباتٌ من تراثنا اللبناني تلامس حنين المهاجرين إِلى أَرضهم الأُم ووطنهم الأَول، وفارس أسطفان في كُل ذلك مغتبطٌ لنهضة “الهدى”، ناشرًا لا يتدخَّل في التحرير ولا يدَّعي ضلوعَه به، متمسِّكًا بالإِرث الصحافي اللبناني، مستعينًا بعمله التجاري كصاحب وكالة سفر (دايفار) لتمويل الجريدة التي لم تكن تفي بتكاليفها تحريرًا وورَقًا وأُجورَ عمَّال. كانت المطبعة في الطابق السفلي تحت الأَرض، وكنت أَدلُف إِليه لاثنتَين: مراقبة طباعة العدد، وقراءة وثائق فيه من أَيام المكرزليين نائمة تحت كثافة النسيان والغبار. غير أَن الجهود التحريرية “الطوباوية” لم تكُن تعادل الحلْم باستقطاب القراء. فالصحف العربية كانت، فترتئذٍ، بدأَت تصل إِليهم بوفرة مصادر إِخبارية، وسرعة تغطياتٍ آنية، فيما لم تكن لي من مصادر إِلَّا ما يصلُني من صحف يحملُها لي أَصدقاء فارس وبعض أَصدقائي فأَقتطف منها ما حين يصدر يكون تخطَّاه الوقت وبات قديمًا.
ولم يكن فارس يـيأَس، ولا كان يلويه ثقلُ ديون تراكمت عليه لشحيح ما كان يصلُه من اشتراكات مهاجرين معظمُهم ابتعد عن العربية ويتابع أَخبار لبنان من الصحف الأَميركية فلا حاجة به إِلى انتظار “الهدى”.
بعد فترتي الأُولى في تحرير “الهدى” (1984-1985) رجعتُ إِلى بيروت ثلاث سنوات ثم عدتُ ثانيةً إِلى “الهدى” سنة 1988، فإِذا فارس أسطفان على فروسيته اللبنانية العالية، وحلْمُه أَن يحتفل بمئوية “الهدى” (1998). ولكن… حين بلغ القهر المالي ضفَّة الوجع، لم أَجد صعوبة في إِقناعه بتعليق الصدور، فانزويتُ في مكتبي، لا بدون غصَّة حتى الدمع الحافي، وكتبتُ افتتاحيةَ العدد الأَخير جاعلًا عنوانها: “… وبعد 94 سنة في ساحة النضال، تتَّكِئُ “الهدى” في استراحة المحارب” (السنة 94 – العدد 11 – الجمعة 8 أَيار 1992).
بعدها بسنتين عدتُ نهائيًّا إِلى لبنان، وبعدي بحفنة سنوات عاد فارس إِلى عرينه الغوسطاوي أَمضى فيه سنوات شيخوخته الأَخيرة حتى انطفأَ قبل أَيام (6 نيسان الحالي) وغابت معه ومع “الهدى” مرحلة مهجرية نقية من التاريخ الحديث في ذاكرة لبنان اللبناني.
هـنـري زغـيـب